تجمد الدم في عروق شهر العسل بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأميركي دونالد ترامب في 14 شباط (فبراير)، والعريسان ما زالا في ذروة سعادتهما الزوجية المتبادلة، والمذنب الرئيسي الذي يقف وراء إفساد زواج المصلحة هذا بقناعة الرئيس المرتبك والعشوائي والمشاكس هو الميديا الأميركية التي عرت مستشاره للأمن القومي الجنرال مايكل فلين وفضحت تضليله للكونغرس باخفائه واقعة اتصالاته المتعددة مع السفير الروسي سيرغي كيسلياك في واشنطن خلال الحملة الانتخابية. منذ ذلك اليوم تتصاعد وتيرة التوتر بين واشنطن و موسكو التي بدأت مع اعلان المتحدث الرئاسي شون سبايسر ان الولاياتالمتحدة تنتظر عاجلاً أو آجلاً أن تعيد روسيا القرم إلى أوكرانيا وأن تضع حداً لتدخلاتها في الأقاليم الشرقية لهذا البلد، والتي تتشكل غالبية سكانها من الناطقين بالروسية. وفي الوقت الذي كان فيه الكرملين يحاول التعامل بهدوء مع التبدل الحاصل في موقف ترامب، كانت الميديا الروسية تلقت تعليمات من الكرملين تؤشر إلى تبدل جذري في تعاطيها مع ترامب والإدارة الأميركية الجديدة. في هذا السياق، تحدثت وكالة «بلومبيرغ» في تقرير نشرته في 16 شباط عن أوامر أصدرها بوتين إلى رؤساء جميع مؤسسات الإعلام الوطنية بالتوقف عن امتداح ترامب وعدم التركيز على متابعة تصريحاته وتعليقاته، وهو ما نفاه لاحقاً الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوب واصفاً هذه المعلومات بأنها «كاذبة وملفقة». ويرى محللون أن «الكرملين على رغم نجاحه في منع دخول هيلاري كلينتون إلى البيت الأبيض، تتسم تصرفاته وردود أفعاله على التطورات المتسارعة في الحال السياسية المتغيرة في الولاياتالمتحدة بعدم النضوج وانعدام الاستعداد السياسي العملاني للتعاطي الخلاق مع تبدل السلطة في واشنطن». ترامب المفضل في الميديا الروسية هذا يتعارض مع تبدلات رصدها محللون وخبراء ميديا طرأت على طريقة تعاطي الميديا الروسية مع ترامب، فبعد أن كانت وكالة «انترفاكس» أعلنت في أوائل شهر شباط أنه «للمرة الأولى من سنوات يرد اسم ترامب في الصحافة الروسية أكثر بكثير من بوتين»، يتبين من متابعة نشرتها جريدة «دنفنيك» الالكترونية لمحتوى الصحافة الروسية عن الإدارة الأميركية الجديدة أنه «في كانون الثاني (يناير) وبعد عودة بوتين إلى الكرملين عام 2012 احتلت في شكل غير مسبوق تصريحات ترامب مساحات أكبر من تصريحات ونشاطات الرئيس الروسي في واجهات الصحافة الروسية»، فلقد وصل عدد المقالات والأخبار عنه في شهر كانون الثاني الى اكثر من 202 الف مقابل 147,7 ألف للرئيس الروسي». إلا أن هذا لم يستمر طويلاً وتبدلت الصورة تماماً وهذا يتضح من تقرير نشرته وكالة الأنباء الروسية (RBK) يتحدث عن تجاهل متعمد لترمب بعد 20 يوماً على نشوب السجالات عن الدور الروسي في الانتخابات الأميركية، وقالت إن «وسائل الإعلام الروسية لم تقم فقط بتلقيص حجم التغطية، وإنما أيضاً أجرت تغييراً في أسلوب وصياغة الأخبار ومحتوى التحليلات الخاصة بسياسات ترامب». كما قامت الوكالة بتحليل واحتساب المرات التي ورد فيها اسم ترامب في 9 قنوات روسية يغطي بثها جميع أنحاء الفيدرالية وهي: القناة الأولى، روسيا1، روسيا 24 وتي في تسنتر، والقناة الخامسة، أن تي في، RBK TV، قناة ( Life) وقناة زفيزدا»، وذلك من خلال رصد ومتابعة محتواها لفترة 24 ساعة خلال أيام الأحاد من ثلاثة أسابيع متتالية». وقال رئيس الطاقم الذي تولى عملية البحث إن «اختيار أيام الأحاد لم يكن مصادفة، بل يرتبط بتوزيع البرامج التلفزيونية في يوم الأحد في جميع القنوات والتي تحتوي على برامج تتضمن متابعات وتحليلات سياسية لأحداث الأسبوع لأن هذا يتيح استثناء الحديث عن ترامب في نشرات الأخبار اليومية». ووفق تقرير نشره موقع (Webcafe) فإن الطاقم الذي قام بالدراسة اعتمد مناهج أعدتها وكالتان لقياس اتجاهات الرأي العام هما «تليماركر» و «ميديالوجيا». ووفقاً للأخيرة فإن اسم ترامب ورد في يوم الخامس من شباط 141 مرة أو 153 مرة وفق الأولى. وتبين أن قناة «لايف» هي القناة التي تحدثت أكثر من غيرها من القنوات الروسية عن ترامب. وتعود ملكية هذه المحطة التلفزيونية الى ناشر صحيفة «ازفستيا» آرام غاربليان وتمول من شركة النفط «سورغوتكس». في يوم الأحد المصادف 12 شباط سجلت الوكالتان انخفاظاً واضحاً في عدد المرات التي يرد فيها اسم ترامب (116 مرة) وفقاً لوكالة «ميديالوجيا» و(86 مرة) وفق منهج «تيليماركر». أما في يوم الأحد المصادف 19 شباط فتم رصد تقلص أكثر وضوحاً في الأخبار التي وردت في المحطات الروسية: 38 مرة وفق «ميديولوجيا» و35 وفق «تيلماركر». ويتضح من الدراسة أن «ورود اسم الرئيس الأميركي في الأخبار والتعليقات انخفض في ظرف أسبوعين فقط بمعدل أربع مرات عما كان عليه من قبل. أرقام وحقائق روسية بعد تسرب المعلومات عن تعليمات بوتين وأوامره بتجاهل أخبار ترامب وتصريحاته، وردود الفعل المتباينة حيالها في داخل روسيا وخارجها، سارعت إدارات مؤسسات الميديا الروسية الى نفي تلقيها اي اوامراو تعليمات من السلطة. وقال النائب الاول لرئيس تحرير الهولدينغ الذي يمتلك القناة التلفزيونية (Life) أناتولي سليمانوف: «نحن لا نشغل أنفسنا بأحتساب الأنباء التي ننشرها حول حدث محدد أو شخصية سياسية معينة، وفي حال رصد جهة ما حدوث انخفاض في نوع محدد من الأخبار والتحليلات فهذا حصل قبل كل شيء بسبب قلة وندرة الأخبار المهمة والجاذبة للاهتمام المتعلقة بالرئيس الأميركي». في تعليق مفاجئ على نفي رؤساء تحرير أقسام الأخبار في محطات التلفزة الروسية، قالت وكالة «RBK» إن «محرريها تنبهوا إلى تبدل من نوع جديد في طريقة تعاطي الميديا الروسية مع ترامب لا يقتصر على تجنب القنوات التلفزيونية نقل تصريحات ترامب ونشاطاته السياسية، وإنما التزام موقف سلبي واضح من الرئيس الأميركي» مشيرة على سبيل المثال إلى برنامج بانوراما الأحداث في أسبوع «ايتوغي نيديلي» في 19 شباط الذي تقدمه الصحافية ايرادا زينالوفا التي قالت إن «ترامب انقلب وأخذ يتنكر لمواقفه القديمة ولم يعد يخجل من استعارة خطاب أوباما حول روسيا»، وأضافت: «في نغمة تجنح إلى نوع من الجنون تغرق الإدارة الأميركية الجديدة في فائض من التصريحات حول (القرم) وتتحدث عن ضرورة تسوية الأزمة في أوكرانيا، والتعاون مع روسيا في الحرب ضد داعش، ولكن من دون إيران. هذه اللغة التصعيدية ضد روسيا تختلف حتى عن موقف أوباما حول أوكرانيا وغيرها من القضايا الذي تميز بنوع من المرونة». وتوجهت إلى الرئيس الأميركي مباشرة بقولها: «المشكلة لا تكمن في أننا كنا من قبل نصدقك ونثق كثيراً بأقوالك ووعودك أيها الرفيق دونالد. لا، بالتأكيد! لنكن واقعيين». يقول مدير مركز «الاستراتيجيات الليبرالية» في صوفيا والخبير في الشؤون الروسية إيفان كريستيف: «ثورة ترامب التي تحققت بالانتخابات الديموقراطية تشعل مواقد الخوف في رؤوس النخبة الحاكمة في روسيا اليوم». ويضيف: «تكتيكات ترامب مستوحاة من الأدبيات الكلاسيكية الثورية، وهو يسعى إلى مفاجأة خصومه وبث الخوف والصدمة في نفوسهم لكي يتمكن من ترسيخ موقعه وتقوية موقفه في حربه ضد النخبة والاستبلشمنت». يجمع خبراء الشؤون الروسية والعلاقات الأميركية – الروسية على أن «ثورة ترامب وضعت بداية مرحلة جديدة من عدم الاستقرار وانعدام الأمن في العلاقات بين البلدين، بل وحتى تتزايد احتمالات حروب تجارية مدمرة». يقول كريستيف: «النخبة الحاكمة في الكرملين التي ماتزال تعالج جروح وكدمات سقوط الاتحاد السوفياتي، ليست بحاجة لتصدعات داخلية جديدة ستنجم عن إثارتها اأزمات دولية جديدة، أو زعزعة الاستقرار العالمي». ويرى أنه «مع دخول ترامب البيت الأبيض خسر بوتين احتكاره مفاجأة العالم بسياسات جيوبوليتيكية لا يمكن التنبؤ بحصولها، ومعها قدرة الكرملين على صدم العالم بهزات تفجر القواعد والأعراف الدولية السائدة يوجه من خلالها ضربات قاصمة ومن نوع ثقيل للتوازنات الإقليمية».