إذا عدنا بالذاكرة إلى الخلف أكثر، لوجدنا أن النسبة الفعلية (93 في المئة) التي فاز فيها الحزب الوطني الحاكم في مصر تتفوق على مثيلتها في انتخابات عامي 1995 و2000، ناهيك عن انتخابات عامي 1984 و1987 اللتين شهدتا أبرز تمثيل للمعارضة الحزبية، خصوصاً حزبي الوفد والعمل، وأيضا للإخوان المسلمين المتحالفين معهما آنذاك. ويعني ذلك أن الانتخابات الأخيرة هي الأسوأ على صعيد التمثيل السياسي للمعارضة المصرية في العهد الحالي، وهو الثالث في ظل نظام ثورة يوليو، ولا يفوقها في درجة السوء سوى تلك السابقة على تجربتي المنابر (1976)، والأحزاب (1979) ، أي فى ظل «مجلس الأمة» القديم، وفي إطار الحزب الواحد «الاتحاد الإشتراكي»، ما يعني حدوث ارتكاسة إلى طفولة التجربة الحزبية في مصر، والتي كانت قد نضجت في ثلث القرن الماضي وقاربت، كما كان يظن البعض، على مرحلة الشباب والنضوج. هذه الارتكاسة لا ترجع فقط إلى انخفاض درجة تمثيل المعارضة، بل أيضاً إلى تدني مستوى التفويض، إذ لم تتجاوز نسبة التصويت - في الرواية الرسمية - نحو 35 في المئة، بينما هبطت لدى المعارضة وقوى المجتمع المدني، التي حاولت ممارسة دور رقابي على عملية الاقتراع، إلى نسبة 15 في المئة. فلو افترضنا أن الحقيقة وسط بينهما، نجدنا أمام نسبة تمثيل تساوي حوالى ال 25 في المئة، وهي من التدني بدرجة تكشف ضعف المشاركة السياسية، وهو أمر لا يمكن تفسيره بعوامل ثقافية شائعة، من قبيل السلبية والخضوع، تلك التي لا تصمد أمام أي تحليل علمي أو تاريخي، وإنما بمدى الهوة بين المصريين وبين النظام السياسي، وبأزمة الثقة الكبيرة بين الناس وبين الحزب الحاكم، والتي عمَّقها سلوك الحزب والحكومة، الرافض لأي مطالب عامة أو للمعارضة على صعيد تصحيح الخريطة السياسية أو توفير ضمانات حقيقية لنزاهة العملية الانتخابية. وهنا يتبدى كيف خان الحزب الحاكم طموحات أحزاب المعارضة الشرعية، ناهيك عن النخبة المثقفة، على رغم مواقفها الوطنية المتعددة إلى جانب النظام فى مواجهة التحديات الداخلية والخارجية. ذلك أن تلك الأحزاب رفضت تماماً كل حديث عن الرقابة الدولية على الانتخابات، رغم ما حدث في انتخابات مجلس الشورى (الغرفة الثانية للبرلمان المصري) قبل أشهر، فلم تستجب لدعوات أميركية أو أوروبية على هذا الصعيد. والأحزاب نفسها هي التي كانت قد وقفت خلف النظام، سواء في مواجهة المد المتطرف الملتحف بالدين بداية الثمانينات وعقب اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات، أو الموجة الأكثر عنفاً والممتدة فى أغلب أعوام التسعينات، بل إن بعض هذه الأحزاب، كحزب التجمع ذي التوجه اليساري، كان أكثر صراحة في مواجهة الإرهاب من النظام نفسه، ناهيك عن كثير من الكتّاب والمفكرين الذين واجهوا الإرهاب الديني بقوة ووضوح، أوديا بحياة البعض وأصابا البعض بأضرار مادية ومعنوية، بل وصحية بالغة، ويكفي أن نتذكر هنا فرج فودة ونجيب محفوظ ومكرم محمد أحمد وغيرهم. رداً على تلك الخيانة، قام حزب الوفد، الأعرق والأكثر تمثيلاً وجماهيرية بين الأحزاب المصرية، وكذلك الإخوان المسلمين، بإعلان انسحابهما من جولة الإعادة، ما مثَّل لطمة قوية للحزب الحاكم أفقدته ولا شك فرحة الفوز، إذ أثارت الشكوك في مدى شرعية البرلمان، التي صدرت ضده فعلياً عشرات الأحكام من القضاء الإداري، ولا تزال هناك مئات الدعاوى القضائية المرفوعة ضده (نحو 400) تطالب بإعادة الانتخابات في معظم الدوائر، ناهيك عن حكم المحكمة الإدارية العليا التي قضت في حكم تاريخي قبل جولة الإعادة بيومين تقريباً بأن إهدار أحكام القضاء الإداري أو محاولة الالتفاف عليها إنما يشكك فى شرعية البرلمان وتهدده بالبطلان، الأمر الذي يطرح على النظام المصري الحاكم تحديين رئيسيين: الأول هو مواجهة خطر حل البرلمان فعلياً، وهو أمر يدور الجدل حوله من الآن، وخصوصاً بعد أن أعلنت جماعة الإخوان عزمها ملاحقة البرلمان قضائياً ودستورياً، وهو ما سوف يقوم به حزب الوفد مؤكداً. وهنا، فإما أن يتم حل البرلمان فعلياً وتتم العودة إلى المربع صفر، بإجراء انتخابات جديدة تكلف الكثير مادياً، فضلاً عن التكلفة السياسية التي تتعلق بدرجة المصداقية التي يتمتع بها النظام لدى الناس، فالشرعية السياسية أمر لا تحكمه القوانين فقط، بل تحكمه أمور نفسيه ومعنوية تتعلق بمدى ثقة الناس بمن يمثلونهم ويقومون بالتعبير عن أحلامهم وتطلعاتهم، ولا شك فى أن المصريين قد تطلعوا إلى برلمان أكثر توازناً وعدلاً. والثاني هو مخاطر العمل من خارج الشرعية، وخصوصاً من قبل جماعة الإخوان المسلمين من ناحية، والمعارضة غير الحزبية، وخصوصا جبهة التغيير وجماعة 6 ابريل من ناحية أخرى، ذلك أن انسداد أفق التغيير من داخل النظام، مع استمرار، بل تزايد دوافع هذا التغيير بفعل تنامي صعوبات الحياة وغلاء المعيشة لدى جل المصريين، إنما تدفع إلى محاولة التغيير الجذري من خارج النظام. ولو أضفنا إلى ذلك وجود البرادعي الذي صدقت نبوءته وثبتت جدوى معارضته للمشاركة في الانتخابات، طالما لم تقدم الحكومة ضمانات واضحة وكافية لعدم تزويرها، وعودته مؤخراً بحماسة أكبر مهدداً بالعصيان المدني كخيار أخير لفرض مطالب الإصلاح السياسي الأكثر مشروعية، بل وإعلان جماعة الإخوان عزمها التنسيق معه، يصبح الأمر جد خطير، والتحدي كبير، لأن الإخوان قادرون على تحريك الشارع خلف الرجل الذي يحظى بمصداقية كبيرة لدى الناس، خصوصاً وأن تلك الحركة ستكون مسببة بوقائع تزوير إرادتهم على النحو الذي لمسوه، وتحدث عنه المراقبون داخلياً وخارجياً، بل أكده القضاء المصري نفسه. غير أنه وفى كلتا الحالتين، وفى مواجهة تحدى البطلان والحل، أو خطر العصيان المدني واحتمالات الفوضى المفتوحة على سيناريوات الهيمنة العسكرية أو الدينية على النظام والدولة، تبقى الديموقراطية هي الخاسرة، إذ تعود القهقرى إلى طفولتها بعد أن كانت قاربت على النضوج والإيناع، وهنا يتبدى كم جَنَتِ الممارسة البائسة والنزعة الاحتكارية للسياسة على طموح التعددية الحقيقية، والأمل الواعد في الحرية. * كاتب مصري