أمس ذهبنا، ريم بنّا وأنا، الى مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطنيين في لبنان. أكره عبارة «لاجئين» تُقال لمن مضى على وجودهم بيننا أكثر من نصف قرن، لكنها للأسف تعبّر تماماً عن واقع الحال، فأبناء فلسطين الذين اقتلعهم الاحتلال الاسرائيلي من أرضهم وأرغمهم على مغادرة مدنهم وقراهم، يعيشون ما هو دون اللجوء بدرجات، نتيجة السياسات العنصرية التي مارسها بحقهم بعض «القانون» اللبناني، تحت ذرائع واهية ومخاوف طائفية ومذهبية يجري تضخيمها، لتبرير حرمان شريحة من البشر من أبسط حقوق البشر. عشية أسبوع الميلاد، ميلاد يسوع الناصري، ذهبت وابنة الناصرة للقاء بني جلدتها وجلدته، عساهم يَشتمُّون فيها رائحة ذكرياتهم التي لم تخفت بمرور السنين، وعطرَ تراب يناديهم كل حين، وشميم مَن جاء باسم الروح القدس لرفع الظلم وخلاص المظلومين. كان المشهد مؤثراً وعاطفياً الى أقصى الدمع، وكانت الوجوه المُغضّنة بالحنين والفجائع تروي سيرة شعب لم توهِنِ الويلاتُ والمحنُ شوقَه وتوقَه الى بلاده المغتصَبة، ولم تكسر الجلجلة المتمادية أمله بدحرجة الصخرة، ولا أضعفت تمسكه بحق عودته الى أرضه المسروقة من قبل جلاّدي يسوع أنفسهم، وكنت أفكر كيف يمكن أن نبرّر لطفل المغارة، الذي تعذب فداء الانسانية جمعاء، ما يصيب «أحفاده» المقيمين هنا على أرض باركتها كُتب السماء ومجّدها كتّاب الأرض وأعلنّاها وطناً للإشعاع والنور، فيما الظلام يُخيم على حياة كثيرين من أبنائه وضيوفه. رُبَّ قائل: ها أنت ذكرتها، ثمة بين أبناء البلد نفسه مَن يعيشون ظروفاً أسوأ من ظروف ضيوفهم. لكن منطق السؤال يقوّض نفسه بنفسه، اذ إن المطلوب ليس الرضوخ للظروف بحجة «ظلم في السوية عدل في الرعية» وفي ضيوفها، بل الواجب يفرض السعي الى تغيير القوانين والأنظمة التي أدت الى الظلم، سواء أطال الرعية أم الرعايا، فضلاً عن كون الخطأ بحق الذات لا يبرر الخطأ بحق الآخر. ربما، بل من المؤكد، أن الذاكرة اللبنانية مثقلة بالأخطاء والخطايا التى شابت تجربة منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان وانغماسها في ما ليس من شأنها من أزمات البلد ومشكلاته المستعصية، حتى لو تقاطعت هذه الأزمات أحياناً مع الأزمة الكبرى المتمثلة بالاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، وهي تجربة ينبغي عدم الوقوع فيها مجدداً مهما كانت الظروف والمبررات، واستخلاص الدروس والعبر منها بما يمنع تكرارها في حال انفتحت مجدداً الشهيات الدولية والاقليمية، علَّ الدروس والعبر تسعفنا في مداواة ما يعتري العلاقة الراهنة من شحوب وسقم. كما أن لا وازرةَ تَزِرُ وِزْرَ أخرى، وبالتالي لا يمكن معاقبة الناس بجريرة أخطاء ارتكبتها قياداتهم ذات يوم، ولا أيضاً حرمانهم من أبسط حقوقهم الانسانية بذريعة الحرص عليهم وعلى حقهم بالعودة الى بلادهم. إن المنطق الذي يُساق أحياناً لتبرير حرمان الفلسطينيين في لبنان من أبسط الحقوق ومستلزمات العيش البشري - على رغم الخطوة الخجولة التي خطاها البرلمان اللبناني أخيراً في الاتجاه الصحيح -، يجعل الوطن في منزلة شقة سكنية والمواطنة في رتبة مهنة أو وظيفة، ولا أظن أن فلسطينياً حقاً يستبدل وطنه بكل عمارات الدنيا ولا بكل وظائفها، وكم من أبناء هذا الشعب المظلوم المصلوب على خشبة الاحتلال وصلوا الى أعلى المراتب في البلدان والمجتمعات التي اضطروا للعيش فيها وظلوا متمسكين بحقهم في وطنهم وفي العودة اليه يوماً، لأن ما من احتلال عمّر الى الأبد مهما ارتكب وزيّف وزوّر في التاريخ والجغرافيا، فالأرض تعرف جيداً الخارجين من رحمها وتدعوهم للعودة مهما أمعنوا في الغياب، مثلما تعرف الذين انتحلوها وطناً ليس لهم وتلفظهم الى خارج التاريخ والجغرافيا في آن. حرصاً على لبنان أولاً، لا على صورته، كما يحلو لبعضهم القول، كأن الصورة أجدى من الأصل، بل حرصاً على جوهره ومعناه، ككيان حضاري وثقافي رغم كل ما اعتراه ويعتريه، وحرصاً على فلسطين التي ينبغي أن تكون قضية ميلادية بامتياز، ينبغي أن يتغير واقع الحال، وان ترفع القوانين الظالمة المُجحفة، اذ لا نستطيع الاحتفاء بطفل المغارة وبين «ظهرانينا» اطفال لا يجدون تحت شجرة أعمارهم ما يهبهم الحق بالحياة الكريمة والدراسة والعمل، ولا حتى ب «بابا نويل» يحمل اليهم ألعاباً سوى بطاقات الإعاشة، بل لا يجدون شجرة أساساً ليعلقوا عليها أمنياتهم الخضراء الطرية. كيف نحتفل بطفل المغارة وبالسيد الناصري ونحن لا نعرف كيف نُكرّم أهله وسلالته، ولا نمسح دمعاً عن وجنات الذين قال عنهم يوماً: «دعوا الأطفال يأتون إليّ». إذا لم نجد من الهدايا ما يليق فلنقرع الجرس على الأقل، جرس العيد أو جرس الإنذار، عسانا نوقظ الضمائر الغارقة في سبات، أو أضعف الايمان، كما فعلنا ريم وأنا، نقول شعراً ونغني لمن اشتاقوا للفرح واشتاقت البسمات لقلوبهم الظمأى قبل الوجوه: ليلة عيد، ليلة عيد، الليلة ليلة عيد.