هارولد سيغل الذي ربما لم يسمع به أحد في اللغة العربية هو أستاذ الدراسات السلافية والادب المقارن في جامعة كولومبيا في الولاياتالمتحدة. ولد ونشأ في بوسطن ثم درس في جامعة هارفارد لينضم بعد تخرجه في 1959 الى قسم اللغات والآداب السلافية في جامعة كولومبيا في وقت كان فيه الاهتمام كبيراً بأوروبا الشرقية بسبب الحرب الباردة. صحيح أن الحرب الباردة انتهت منذ حوالى عشرين سنة وتغيرت كثيراً أوروبا الشرقية، ولكن سيغل الذي أصبح الآن أستاذ شرف بعد حوالى أربعين سنة من التدريس لا يزال يعمل بجد للتعريف بآداب أوروبا الشرقية بعد عدد من الكتب التي أصدرها. ومن بين الكتب المرجعية التي نشرها حتى الآن، لا بد من ذكر «أدب القرن الثامن عشر في روسيا: تاريخ ومختارات» (1967) و «ثلاثية ألكسندر سوخوفو كوبلين»(1969) و «المسرحية الروسية في القرن العشرين من غوركي حتى الآن» (1979) و «غرباء في محيطنا: صورة اليهود في الادب البولوني» (1996) و «الفكر السياسي في بولونيا النهضة: مختارات في الانكليزية» (2003). ومع أنه في خريف العمر، كما يقول، إلا أنه انشغل في السنوات العشر الاخيرة بعمل كبير من ثلاثة مجلدات عن أدب أوروبا الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية. وقد أصدر المجلد الاول عام 2003 بعنوان «مرشد كولومبيا إلى أدب أوروبا الشرقية منذ 1945»، وأصدر المجلد الثاني عام 2008 بعنوان «التاريخ الادبي لأوروبا الشرقية منذ 1945»، بينما يتضمن المجلد الثالث مختارات مترجمة الى الانكليزية مع تعليقات من ابداع أدباء أوروبا الشرقية الذين خاضوا تجربة السجن وكتبوا عنها، وهو الذي أتمه وينتظر أن يصدر قريباً. وباعتباره من المتخصصين في اللغات والآداب السلافية، فقد تضمن المجلد الاخير «فتحاً» جديداً له، ألا وهو اختياره أربعة كتاب من الادب الالباني، الذي لا يدخل ضمن الآداب السلافية، لأن ألبانيا برأيه كانت تعيش الغولاغ أيضاً كغيرها ولا يمكن تجاهلها في مثل هذا الموضوع. ويلاحظ هنا أن سيغل في ما اختاره من الادب الالباني المعاصر (ماكس فيلو وبسنيك مصطفى وفيسار جيتي وفاتوس لوبونيا) قد جمع ما بين الشعر والقصة ومقاطع من الرواية وحتى لوحات بالابيض والاسود من عالم السجن للكاتب والفنان التشكيلي ماكس فيلو. في مقاربته لهذا الموضوع، ينطلق سيغل من الغبن الذي لحق بأدب أوروبا الشرقية نتيجة عدم الاهتمام به والنظر إليه باعتباره أقل أهمية أو أقل قيمة من الادب الآخر في أوروبا الوسطى والغربية، وهو الشيء الذي يجافي الحقيقة. ويرى سيغل ان هذه النظرة لا تزال سائدة الى اليوم نتيجة اعتبار أوروبا الشرقية المنطقة الافقر والاقل قيمة ثقافياً بالنسبة الى باقي أوروبا. أما في ما يتعلق بالموضوع نفسه (أدب السجون)، فيرى سيغل أن أوروبا الشرقية هي الاغنى به نتيجة الظروف التي مرت بها تحت حكم الانظمة الشمولية، والتي اختلفت في ما بينها ولكنها كانت واحدة في التعامل مع الرأي الآخر. وقد أُجريت في أوروبا الشرقية أبحاث كثيرة لمعرفة ما كان يحدث في السجون، وذلك لاعتبارات تاريخية وأخلاقية، وهو ما أثمر عن نشر الكثير من الكتب عن كل دولة أو عن عدد من الدول. ويرى سيغل أن أهم الاعمال والمؤلفات كانت في رومانيا وسلوفاكيا، كما ويذكر في هذا السياق الكتاب الذي أصدره المنظّر البلغاري تزفتان تودوروف عن أسوأ سجن في بلده (بيلين). ويذكر سيغل هنا الشاعرة الرومانية روكساندرا تسرينا التي نشرت كتباً عدة عن سجون رومانيا، ويشيد بالكاتب السلوفاكي رودولف دوبياس الذي نشر الكثير عن سجون سلوفاكيا، بينما أصدر في 2009 مختارات شعرية للكتّاب الذين خاضوا تجربة السجن في تشيكوسلوفاكيا. ويخلص سيغل من هذا الى أن الكتّاب في أوروبا الشرقية ضحّوا في حياتهم خلال الانظمة الشمولية وضحوا بعد سقوط هذه الانظمة بالعمل الدؤوب للكشف عن الغولاغ المرعب من خلال الشهادات والابداعات الفنية المختلفة التي شملت الشعر والقصة والرواية. وبالمقارنة مع هؤلاء، فإن عمل سيغل يختلف في انه يحمل تلك التضحيات والإبداعات من اللغات في أوروبا الشرقية، غير المعروفة في أوروبا الغربية، الى الولاياتالمتحدة لتصدر هناك باللغة الانكليزية ولتعود ثانية الى أوروبا لتقرأها بلغة واحدة. وفي ما يتعلق بألبانيا، كانت المفارقة أن سيغل أُخذ أولاً بالشاعر الالباني فيسار جيتي لأنه كان يمثّل نموذجاً فريداً: الشاعر المسجون والمحروم من القلم والورق الذي يبدع ويخزّن في ذاكرته الى أن يخرج من السجن ليدوّنها أخيراً على الورق وليكشف للعالم ما كان يحدث في الغولاغ الالباني. ومن ناحية أخرى، فقد كانت المفارقة الاخرى تكمن في أن سيغل تعرف إلى الغولاغ الالباني من خلال مترجم روايات اسماعيل كاداريه الى الفرنسية، يوسف فريوني، وليس من خلال اسماعيل كاداريه، الذي لم يحظ بهذا «الامتياز» (السجن) لكي يكتب عنه. فقد غضب النظام الشمولي على يوسف فريوني وزجّ به في السجن، وبعد خروجه من السجن منعه من الابداع والنشر ولكن سمح له بالعمل في الترجمة، حيث أبدع في ترجمة رواية «جنرال الجيش الميت» التي شهرت كاداريه في الغرب والعالم. وما عدا ذلك، فقد أخذ سيغل قصة من ابداع الكاتب الالباني ماكس فيلو (ولد 1935)، كما أخذ مقاطع من رواية لبسنيك مصطفى (ولد 1958) تتعلق بتجربة السجن التي عاشها. كتاب سيغل الجديد الذي نأمل أن يصدر قريباً يعيد الاعتبار الى أدب أوروبا الشرقية في شكل عام والى الادباء الذين عانوا المرارات كلها وليس الأمرّين فقط في سجون الغولاغ، لا لشيء إلا لتعبيرهم عن حقهم في الرأي والابداع المغاير لما هو مفروض.