تبدو تلك النبرة العريضة المفعمة بالرفض والاحتجاج التي تتوضح في تجربة الشاعرة الجزائرية زينب الأعوج طبيعية وعفوية، بعيدة من التصنع والاستعراض، كأنما نحن إزاء شاعرة جُبلت على الرفض، وتمرّست طويلاً في الاحتجاج والتمرد، حتى أضحى عنصراً أساسياً في تجربتها. ولئن جاء ذلك من متطلبات القصيدة التي لا تهاب شيئاً، وتغامر باتجاه مناطق شائكة، فإنه من ناحية ثانية، يظهر كأنما على النقيض من الملامح البريئة للشاعرة، ومن حضورها الشخصي الشفيف والمسالم. يظهر النص لديها، وهو محمول على هذه النبرة، كأنما فوهة بركان تنثر حمماً، أو لزلزال صغير في طريقه إلى أن يعصف بكل شيء. الكتابة لدى الأعوج سلاح لقول ذاتها وقول الآخر في آن، وقبل ذلك طريقة في الاحتجاج «على المحيط الواسع الذي أعيش فيه، أنا ابنة أهلي وابنة قريتي وابنة وطني وابنة كل العالم من أقصاه إلى أقصاه، ولذلك أجد نفسي معنية بكل ما يحدث فيه، وبكل ما يمسّه، بكل ما يفرحه أو يؤذيه، وشعري هو صرخة احتجاجية على ما يحدث في العالم. احتجاج على الأوضاع الاجتماعية والسياسية المزرية، بكل تفاصيلها حتى تلك الدقيقة منها والخفية، هو صرخة امرأة، صرخة مبدعة، صرخة إنسان بكل بساطة ضد الظلم، ضد الطغيان، ضد القهر، ضد أن يُحَقَّر الإنسان أو يهان». لكن، هل يمكن أن تترسخ هذه النبرة من الاحتجاج والتمرد، من دون أن تفقد القصيدة شيئاً من فنها؟ ما الذي يمنعها من التحول إلى بيان أو منشور سياسي أو تقع في المباشرة والفجاجة؟ تؤكد صاحبة «رباعيات نوارة لهبيلة» أنها تشتغل على نصها وتتعب حتى لا يفقد روحه الجمالية، وهو يقدم الفكرة أو الطروحات التي أرادتها، «القصيدة بالنسبة إلي بحث مستمر عن الجديد والمغاير والمتميز، ربما أفلح وربما أفشل في ذلك. القصيدة بالنسبة إلي موضوع يجب أن أعالجه، وأن أطرحه بما أملك من قدرة إبداعية ومخزون ثقافي، وبما لدي من وسائل جمالية، مثلي مثل الحداد والإسكافي والنجار وصانع الزجاج وملمّع النحاس، إلى غيرهم من الحرفيين الذين نعيش بهم ومن خلالهم من دون أن نعرفهم. أطرق باب النص كمن تهز شباك ولي صالح، بما أملك من وسائل لغوية وفنية وجمالية». قبل أن تباشر الكتابة في شكل جاد ومسؤول، كانت رغبة تملكتها في أن تشبه شخصيات وبطلات القصص التي تقرأها، فراحت تنقل الحكايات وقصص الأطفال مقنعة نفسها بأنه يمكنها أن تكتب مثلها. وفي الخامسة عشرة من عمرها قرأت كل ما كتبت مي زيادة وخليل جبران والمنفلوطي وجرجي زيدان وإحسان عباس وبعض كتب نجيب محفوظ والكثير من القصص باللغة الفرنسية. تقول الأعوج التي التقيناها خلال مشاركتها في مهرجان «سوق عكاظ» قبل مدة، وكانت حادثة منعها من الصعود إلى المنصة لقراءة شعرها، أثارت ردود فعل كثيرة، إن المبدع يعيش حاله بحساسية مفرطة، يتمثلها ويسكنها حتى تتحول إبداعاً، «يحتويها وتحتويه بكل أنانية وبكل سخاء. والعملية الفنية والجمالية هي تراكم مرتبط بالكثير من الأشياء وكيفية وطرق تلمسها». والقصيدة بالنسبة اليها لا بد من أن ترى وتُلمس، «أن نلمس نبضها ونتحسس درجة حرارتها كالطفل الرضيع. القصيدة يجب أن نقرأها ونسمعها ونراها تمشي أمامنا وتتحرك وتتمايل بغنج وبدلال وبكبرياء. لا بد من ان تفصح القصيدة عن ذاتها وتقول لنا: أنا هنا أطرقوا بابي». واللغة، في رأيها، هي ما يجعل القصيدة مرئية وملموسة، «القصيدة جنين ننفخ فيه الروح باللغة». وتعتقد أن القصيدة التي تسكن الشاعر ولا يكتبها في لحظتها، «تصبح مثل الذبحة. وتسكنك كالغصة، وبعدها تتبعثر وتتبدد وتتشظى في نصوص أخرى، ولن تكون هي أبداً». تشير صاحبة «يا أنت من منا يكره الشمس» إلى أن كل القضايا النبيلة والراقية توجر بها، ومع ذلك ما زال يوجد من يكتب عن هذه القضايا، «بصدق وبوعي كبير لتلمس الجرح وتضميده، ولتلمس الخطر وتجنبه ولتلمس المأساة التي ما زالت تعيشها بعض النساء في مجتمعاتنا ولا يتنبه اليها أحد، ومن يتنبه اليها يكون مكتوف اليدين أو ينتفض الأوصياء علينا من غفوتهم، ليكونوا أول من يمارس عملية الرجم»، مشددة على أن كل المجتمعات يقاس تخلّفها أو تقدمها، من خلال وضعية المرأة فيها. يتخطى نصها الشعري ما قد يحيل إليه من دلالة وفهم مباشرين، إلى أن يكون مفتوحاً، بشمولية مقاصده، ليمس حالة إنسانية في تشابكاتها وتعقد مصائرها. فديوان «مرثية لقارئ بغداد» مثلاً، وهو عبارة عن نص متموج ومتلون ومتعدد، لا يعني هذه المدينة فقط، إنما هو «صرخة الإنسان العربي. وصرخة الإنسان ككل أينما وجد، ضد الظلم والطغيان، ضد الحقد وضد الكراهية وضد الضغينة وضد الأفكار المسبقة. هو صرخة قاسية جداً من أجل الحب والمحبة والتسامح بين الناس. صرخة من أجل الحرية بكل مفاهيمها النبيلة التي تجعل الإنسان هو القيمة العليا، بكرامته كاملة وغير مجزأة، وبحقه في الحياة والعيش الكريم». في هذا الديوان، الذي تراوح فيه بين امرأة مقهورة ومدينة منكوبة، تتمثل القصيدة كل التواريخ وكل الجغرافيا للوطن العربي والإسلامي، «قصيدة اشتغلت عليها أكثر من ثلاث سنوات»، تقول موضحة، «بين كتابة وإعادة كتابة وقراءات متعددة للكتب التاريخية والكتب المقدسة والشعر القديم والأنتروبولوجيا، إنها قصيدة رحلت بي إلى الكثير من الأزمنة والأمكنة، إلى الكثير من العوالم والتي تشكلت قصيدة كما أردتها إلى حد بعيد». تعي هذه الشاعرة، التي درست تطور مفهوم الثورة في الشعر الجزائري، وبحثت في الدلالة الاجتماعية للشعر المغاربي في السبعينات من القرن الماضي، أن ما أرادته من الاشتغال على هذه القصيدة، هو الإسهام بطريقتها الخاصة في الاحتفاء بالشعر وأن تعيد اليه شيئاً من بهائه، الذي ترى أنه بدأ يفقده على مستوى العالم وليس فقط في الوطن العربي، «لم يعد يُحتفى بالشعر كما كان ولم يعد للشعر بهاؤه كما كان، ولم تعد له منابره التي كانت والتي يجب أن تعود وبقوة، لأن الشعر هو ملح الحياة والذي يطهرها ويطهرنا من العفن». يتوزع اشتغالها في «مرثية لقارئ بغداد» على مستويين، «مستوى المضمون الذي هو مضامين متعددة، ومستوى البناء والشكل، من خلال استعمال خطوط عدة وتشكيلات ورموز ورسوم. مثل فكرة الحمام الزاجل، كما استحضرت سفينة نوح بمعنى التعدد والتنوع والاختلاف والتسامح، لأبحث لنا عن نوح عصرنا، نوح الجامع وسط كل هذا الشتات والدمار الذي نعيشه في عصرنا الحالي». أسألها كيف هي علاقتها بزوجها الروائي واسيني الأعرج؟ خصوصاً أن لغته كثيراً ما تفصح عن شاعرية عالية، وأين يلتقيان ومتى يفترقان؟ فترد: العلاقة الإنسانية أولاً وقبل كل شيء، والعلاقة الحميمة التي تجمعنا منذ 30 سنة. هناك حب وود واحترام متبادل، وكلانا يعمل ويجتهد من طرفه بما أوتي من سخاء، حتى نحافظ على هذه العلاقة بكل جمالية وبكل بهاء. وبكثير من التضحية من الطرفين حتى لا تغيبنا كثيراً عوالمنا الإبداعية والعمل وتنقلاتنا المتكررة عبر العالم، عن الجو العائلي الذي ينعشه دوماً وجود الرائعين باسم وريم». وتلفت إلى أنهما لا يعيشان حالاً من التنافس، على العكس من ذلك، فكل واحد منهما سند للآخر، «كلانا يعمل كل ما في وسعه حتى ينجح الآخر، كلانا يحاول توفير الظروف المناسبة للإبداع والراحة النفسية. وأيضاً كلانا له مجاله وعوالمه الإبداعية، هو مع الرواية وأنا مع الشعر وكلانا يستأنس برأي الآخر في ما يكتب ونتناقش في شكل حر وجميل، وهناك شيء جميل يتميز به واسيني، هو حكّاء جميل ورائع يجعلنا نعيش معه نصه بكل تفاصيله وهو يكتبه يحكيه لنا ومعنا. نعيش معه نصه من بدايته إلى آخر رتوشاته». أسألها أيضاً عمّا إذا كانت تغار أم لا من النساء اللاتي يحضرن بكثرة في رواياته؟ فتوضح قائلة: «كوني أرفض أن أكون امرأة من ورق يجعلني لا أغار من نساء من ورق. نساؤه عوالم إبداعية بطبيعة الحال، طبعاً مستقاة من الواقع المتعدد والمتشابك والمعجون بخياله الجميل وقدرته على صنعهن مثل من يصنع عرائس من طين وماء. وكل امرأة هي مجموعة من النساء يأخذ من كل واحدة ما يشتهي ليشكل امرأته المثالية أو امرأته البشعة التي تتطلبها الرواية. فهن كثيرات ومتعددات وأنا زينب واحدة وواحدة فقط. أنا المرأة الحقيقية لا الوهم بكل إيجابياتي وسلبياتي. فقط أنا». أسست الشاعرة داراً للنشر وأطلقت عليها «دار الفضاء الحر»، في أواسط التسعينات، في تلك المرحلة الصعبة التي مرت بها الجزائر، لتقول أيضاً بطريقتها الخاصة إن التطرف أو الانغلاق، «لا بد من أن يحارب بالثقافة المتنورة والمنفتحة على الآخر، وحتى أقول إن الكلمة هي السلاح الأقوى والأمثل ضد الجهل والتخلف. لأن «المعرفة مصباح القلب» كما قال أبو حيان التوحيدي». قامت الدار من أجل الاحتفاء بالأدب بأنواعه المختلفة، أنفقت عليها في البداية من إمكاناتها الخاصة، أما الآن فالدار مستمرة بفضل «استراتيجية جميلة للنهوض بالكتاب من طرف مؤسسات الدولة في الجزائر وعلى رأسها وزارة الثقافة التي خصصت موازنة خاصة للناشرين والمبدعين في شكل عام». تمثل سورية التي أقامت فيها لسنوات كثيرة، محطة مهمة في حياتها، على صعد كثيرة، فهي ساهمت في إثراء معارفها وتحريك فضولها، «لم نكن نرتاح في سورية كنا نتعب في شكل جميل وثري وممتع، كل يوم كان هناك نشاط ولقاء فني وثقافي في مكان ما». أنجبت في دمشق ولديها باسم وريم، ودرست الماجستير والدكتوراه وألفت ثلاثة كتب. ترى الأعوج التي تعتبر الجوائز التي حازتها نوعاً من النشوة الآنية وإشباعاً لما في الكتاب من بذور نرجسية، أن المجتمعات العربية لا تهتم بالترويج للثقافة، ولا تعرف كيف تسوق لمنتوجها الذي يساعد في التنوير ويساهم أيضاً «في تبديد الأفكار المسبقة التي ينظر الينا بها الآخر ويحكم بها ومن خلالها علينا»، مشيرة إلى ان القراءة غواية واللغة غواية ومتعة، «ويجب أن نجتهد ونبحث باستمرار عن الطرق والوسائل التي توصلنا إلى اكتشاف وتلمس وتذوق هذه المتعة وهذه الغواية، نحن نفتقد وسائل الإغراء التي تدفع إلى القراءة».