ليس هناك ما هو أكثر مدعاة للشفقة من ذلك الطبيب الذي يخالف قسم أبقراط في الخفاء و «يعتدي» على حقوق المريض الذي يقع بين يديه، أو تحت مبضعه، فيتسبب له بأذى معنوي وجسدي لا يعوضان. وجميعنا يعرف أن هناك كثراً من الأطباء الذين نسوا هذا القسم بعد تخرجهم من الجامعات، وارتكبوا أعمالاً مخلة بشرف المهنة وصلت أحياناً حد القتل، والتعريض بالجسد الإنساني وانهاكه في العيادات والمشافي وغرف الطوارئ وفوق الأسرّة. ونعرف قصصاً كثيرة راح فيها بعض الأطباء ضحايا لأعمالهم التي يتسم بعضها بالجبن، فيما يحمل بعضها الآخر سمة التهور والإهمال. على أن مغادرة القسم الذي يقسمه الطبيب لحظة تخرجه ويتعهد بصونه أثناء ممارسته مهنته تتخذ أحياناً طابعاً اشهارياً ملتبساً لا يمكن البت فيه بسهولة، باعتبار ان الإعلان التلفزيوني المسبب لهذا الإشهار العلني لا يتعرض للمحاسبة بسبب من قوانين جائرة تفرضها طبيعة السوق وأهداف المعلن والتاجر ونيات المستهلك، وهي تسمح بقليل أو بكثير لهذا الطبيب المتفاخر هنا، والذي لا يزال موضوع حديثنا، أن يخالف قسم أبقراط في العلن، ويتفادى الوقوع في شرك المحاسبة، لأن الإعلان التلفزيوني أصبح يمثل سلطة عليا في حياة الناس والمجتمعات الحديثة، وهو يمنع على ما يبدو إعمال العقل للوصول الى الحقائق التي يدحضها العلم تارة، والخبرة تارة أخرى. وهنا بالضبط تصبح حالة الطبيب الذي يخضع (أحياناً) لسطوة هذا الإعلان وجبروته أكثر مدعاة للشفقة من زميله الذي يخالف أبقراط وقسمه في السر. لأن ما يحدث في العلن أشد فتكاً وأقوى تأثيراً، فهو يدخل بيوت كل الناس ويحتل عقول القسم الأعظم منهم كباراً وصغاراً، وفي هذا خطورة أكبر، لأن ما يدور الحديث عنه هو عمليات مسح مركزة للدماغ لا تكترث بأبقراط ووديعته لدى الإنسان بوصفه حجة ومنارة وعلماً لا يقاس أو لا يمكن نكرانه والتحايل عليه. نعم... ليس هناك ما هو أكثر مدعاة للشفقة، من ذلك الطبيب الذي يظهر مزهواً في إعلان تلفزيوني عن معجون أسنان يطابق من خلال فرشاته والمعجون الذي يستخدمه بين الأسنان البشرية وقشرة بيضة الدجاج، وما هو معروف لنا نحن الذين لم نقع بعد تحت طائلة قسم أبقراط أنه لا علاقة أبداً، عضوية أو كيماوية بينهما، وهما لا يلتقيان على مادة واحدة لنكشف حجم تأثير الأحماض عليهما، ومع ذلك يصر هذا الطبيب في إعلان تلفزيوني طبقت شهرته الآفاق على مخالفة قسم سيده في ما هو أكثر من العلن نفسه هذه المرة.