بات ثابتاً لدى الأوساط العلميّة أن الجامعات ترتقي بفضل رسالتها وقيمها وأهدافها وسمعتها وإنتاجها المعرفي وعنايتها بطلابها وتنوّع برامج التدريب العملي وغنى النشاطات اللامنهجية فيها. إذ ازدهرت جامعات مرموقة ك «هارفارد» و «أكسفورد» و «كامبردج» وغيرها، بفضل تركيزها على خدمة المجتمع والمسؤولية الاجتماعيّة والعمل التطوعي وغيرها. إذ سمحت تلك النشاطات في تسليح خريجيها بالمهارات اللازمة لخلق كادر علمي لا تشغله معارك تحقيق الذات وضراوة المنافسة في سوق العمل، عن التنبّه إلى تطلعات مجتمعه واحتياجاته. وكذلك تعزّز تألّق تلك الجامعات بنجاحها في توفير موارد ماليّة كافية لتوفير بيئة تشجع على التنافس والتدافع بين أبنائها، كما تفجر كوامن الابتكار والإبداع لديهم. وباستعادة من زمن جارٍ، سخّرت الجامعات الشبكة العنكبوتية وتطبيقاتها المختلفة ك «يوتيوب» وشبكات التواصل الاجتماعي والمدونات الإلكترونيّة الشخصيّة («بلوغز» Blogs) ونظم محاكاة الكومبيوتر والألعاب التعليمية وموسوعة «ويكيبيديا» والمكتبات الرقمية المفتوحة وغيرها. وحوّلتها أروقة علميّة تساعد العملية التعليمية فى تحقيق أهدافها والتغلب على مشكلة ضيق القاعات الدراسيّة التقليديّة، وكسر جمود طرق التدريس العتيقة التي أصبحت لا تناسب جيل الإنترنت والشبكات الاجتماعية. تحديّات قرن مختلف في ذلك السياق، اعتمدت 160 كلية وجامعة عالميّاً الموسوعة الإلكترونيّة المفتوحة «ويكيبيديا»، نافذة للطلاب للتعلم ونشر الواجبات الدراسية والمهمات الصفيّة عليها، وفق موقع «ويكي إديو دوت أورغ» wikiedu.org. وعربياً، اعتمد مجلس إدارة الجامعة الهاشمية الأردنيّة أخيراً مساهمة الطلاب في محتوى «ويكيبيديا» العالمية ضمن المساقات العلميّة وإستراتيجيات التعليم لديه. وسمح أيضاً للأساتذة بتخصيص علامات لها محدّدة ضمن درجة التحصيل العلمي. وجاءت المبادرة إثر نجاح أحد طلابها في كتابة 600 مقالة في الحقول الطبيّة، وتحسين ما يزيد على 120 ألفاً اخرى، لخدمة أقرانه من طلاب الطب والأطباء المتمرسين. في سياق مماثل، قامت طالبات قسم «نُظُم المعلومات الإدارية» كلية إدارة الأعمال، في جامعة الملك فيصل بكتابة 26 مقالاً عن برامج أمن المعلومات المجانية. ثم توليّن نشرها على النسخة العربيّة من «ويكيبيديا». واعتبر عملهن مساقاً تعليميّاً لمادة «أخلاق مهن نُظم المعلومات الإدارية» في تلك الجامعة. وتحديداً، أُمِدّت الطالبات برابط لموقع «سيك تولز دوت أورغ» sectools.org الذى يحوى 125 برنامجاً لأمن المعلومات، واختارت كل طالبة برنامجاً للكتابة عنه. واختارت طالبة برنامج «نيساس» Nessus الشهير في حماية الشبكات، فعرضت ميزاته في مقال نشر على «ويكيبيديا». ويختصّ «نيساس» في برامج كشف الثغرات الأمنية في الحواسيب والشبكات. واهتمت طالبة اخرى ببرامج تنقية محتوى الإنترنت، واختارت برنامج «نوسكريبت» NoScript المجاني الذي يعمل على حجب المحتوى المسيء وغير الآمن على الشبكة العنكبوتيّة، ناصحةً أولياء الأمور باستخدامه لحماية حواسيب أبنائهم من المحتوى الضار. وعلى نحو مماثل، كتُب مقال عن تطبيق «دبليو 3 إيه أف» W3af المختص فى كشف الثغرات الأمنية في الحواسيب، وهو مفتوح المصدر. واختارت طالبة اخرى كتابة مقال عن برنامج الحماية «إف. سيكيور» F.SECURE. ولم تنس الطالبات برامج تشفير الرسائل لمواجهة أخطار التجسس المتزايدة. ونشرت إحداهن مقالاً عن برنامج «ستانيل» stunnel الذي يختصر اسمه بكلمتي «نفق آمن» secure tunnel. ويتميّز بأنه مفتوح المصدر ويعمل على منصّات متنوّعة تماماً، بل إنّه ظهر بديلاً لبروتوكول «طبقة المنافذ الآمنة» (اختصاراً «إس إس آل» SSL) المستخدم في تشفير رسائل البريد الإلكتروني والملفات ورسائل غرف الدردشة. ونال تطبيق «نايبر» Nipper مقالاً من طالبة قدّمت فيه قدراته المختصة في فحص أمان أجهزة الشبكات المختلفة وسدّ الثغرات فيها. وبحثت زميلة لها في برنامج «نتسباركر» Netsparker المختص في كشف ثغرات الضعف في بنية الهندسة الرقمّة لتطبيقات ال «ويب»، بهدف منع هجمات قراصنة الكومبيوتر أو حتى مخربي النُظُم من الداخل. وبقول مجمل، ساهمت الطالبات بفخر في تحقيق رسالة الجامعة التي تركز على خدمة المجتمع والابتكار والتميز في التعليم. طفرة في إستراتيجيات التدريس على عكس إستراتيجيات التدريس التقليديّة، بدا أن تلك الإستراتيجية المبتكرة في التدريس تعطي حرية أكبر للطالبات، وتحفزّ ملكات الابتكار لديهن وتلبي رغبتهن في خدمة أقرانهن من اللواتي لا يتقن اللغة الإنكليزية. كذلك مكنتهن التجربة من التمرس في الترجمة والتعريب، وتحسين مهارات البحث العلمي، وتنمية مهاراتهن في التواصل والحوار، وتقبل الرأي الآخر، إضافة إلى توفير الورق والحفاظ على البيئة وهي أحد محاور «رؤية 2030». يضاف إلى ذلك أن نجاح طالبة في كتابة مقالة ودعمها بالمراجع والمصادر المهمة، يعتبر خطوة مهمة في تأهيلها للدراسات العليا، ورفع جاهزيتها في المنافسة في سوق العمل. وتفيد التجربة أيضاً بتحقيق الشفافية في توزيع الدرجات، لأن نشر مقال على «ويكبيديا» يتيح مقارنة جودته مع الدرجة الممنوحة لها. وعمقت التجربة تبادل المعرفة والتلاقح الثقافي بين الطالبات، خصوصاً أنهن أطلعن على أعمالهن قبل إنجازها، ضماناً لعدم تكرار الموضوعات. ويعرف عن محرّري «ويكيبيديا» أنهم لا يقبلون نشر موضوعات مكرّرة أو مقالات رديئة الصياغة أو تفتقد مراجع ومصادر علميّة. وفي وهج المنافسة المتألقة، اضطرت غير طالبة إلى إعادة اختيار موضوعها، بل تكرار كتابة المقال ليصل إلى المستوى المقبول. وعبر تلك التجربة، تحول الطالب من مجرد مستهلك للمعرفة الى منتج لها، بل ناشر ومعلم قادر على تغذية عقول آلاف الطلاب داخل الجامعة وخارجها.