التعبير عما يعكر صفو الحياة من البدهيات التي يلجأ الإنسان إليها بحثاً عن الراحة، فتتجسد «الفضفضة» نافذة لطرح أثقال الحال النفسية السيئة التي تعتري البعض، حتى وإن كان المستمع غير مناسب أو قادر على حل مشكلاتهم، كالحلاق على سبيل المثال، إلا أن إنصاته واستماعه يكفيان المتحدث غالباً، ويمنحانه شعوراً بالراحة. يتقمص الحلاق كثيراً دور أطباء النفس الذين يعتمدون دائماً على كشف مكنونات مرضاهم، من خلال إعطائهم حرية الكلام وعدم مقاطعتهم وصولاً إلى مشكلاتهم الحقيقية وتحليلها وبالتالي إعطاء العلاج اللازم وفقاً لجلسات المصارحة تلك، فيصبح صالون الحلاقة أحياناً أشبه بعيادة نفسية، وربما منافساً لها أحياناً، كونه يمنح إلى جانب الأذن المصغية مظهراً مريحاً للزبون. وقد فطن حلاقون كثر إلى أهمية هذا الدور في اجتذاب الزبائن، فطوروا أدواتهم الحسية بقدر تطور أدوات التزيين والموضة، ليصبح أحدهم المستمع الأول لمشكلات زبائنه ومرتاديه؛ يناقشهم همومهم ويفتح قلبه وأذنيه لكل أسرارهم. دوغان حلاق تركي يجيد اللغة العربية بمهارة، ويؤكد أن غالبية زبائنه يكشفون له عن أدق تفاصيل حياتهم بدءاً بمشكلاتهم العاطفية وانتهاءً بالأسرية وضغوط العمل الوظيفة. ويقول ل «الحياة» «البعض قد لا يستغرق إتمام حلاقة ذقنه ربع الساعة، إلا أن الأمر يمتد أحياناً إلى نحو الساعة تمر دقائقها في الحديث عن كل ما يزعجه، أو كشف مشاريعه المقبلة، وحتى الخلاف الذي دار بينه وبين زوجته بالأمس وإلى أين انتهى». ويضيف: «عادة ما يطلب زبائني المشورة في إتمام بعض صفقاتهم أو حل خلافاتهم داخل المنزل، والبوح لي بأمور لا شأن لي فيها، لكني لا أتردد في إعطاء النصح إما بالموافقة أو الاعتراض على بعض القرارات، وقد يتطلب الحديث متابعته في اليوم التالي من خلال الاتصال بذلك الزبون والاطمئنان عليه، خصوصاً عندما تكون المشكلة معقدة». وحول نوع الحديث والأسرار التي يطلع عليها، يكشف دوغان أن أحد زبائنه حضر إليه وكان شاباً يستعد لإتمام عقد قرانه في اليوم نفسه ومن فرط سعادته كشف له عن ظروف ارتباطه بفتاة أحلامه وكيف عانى كثيراً للحصول على موافقة والدها بعد قصة حب طويلة استمع إلى تفاصيلها كل ذلك حدث أثناء الحلاقة. ويشبه دوغان «كرسي الحلاقة» ب «كرسي الاعتراف»، فمن خلاله استطاع أن يعيش قضايا المجتمع والاطلاع على أدق التفاصيل. وتعزو الاختصاصية النفسية سميرة الغامدي وراء هذه الحال الخاصة من الفضفضة إلى الضغوط النفسية ومشكلات الوظيفة أو المنزل. وترى أن صالون الحلاقة يُقصد لغرض الحصول على الراحة وتحقيق رضا الإنسان تجاه هيئته ومظهره العام، «وفي المقابل فإن هذا الشعور الجيد قد يدفع بالبعض منهم إلى إخراج ما يزعجه أو ما يشغل تفكيره ومحاولة التخلص من كل الأعباء النفسية». وتؤكد الغامدي أن هذا يعتمد بالدرجة الأولى على مهارة وحنكة الحلاق الذي يجيد الاستماع والتفاعل بشكل منطقي مع مشكلات زبائنه. وتستطرد: «الأمر يشبه إلى حد كبير حال البوح الكلامي تجاه من نثق بهم»، لكنها نفت أن يكون ذلك المكان هو المناسب لكي نكشف فيه «بعضاً من أسرارنا».