لا تزال تداعيات هجوم الشاحنة الإرهابي، الذي شهدته العاصمة ستوكهولم، ترمي بظلالها الداكنة على المستويين الحكومي والشعبي في السويد. ومن المتوقع أن يستمر ذلك خلال السنوات القليلة المقبلة، فما زال السويديون يتذكرون حتى الآن، بحزن وصدمة التفجير الإرهابي الذي نفذه تيمور عبد الوهاب في المنطقة نفسها تقريباً من ستوكهولم، أواخر عام 2010. ومنذ يوم الحادث، الذي وقع بعد ظهر الجمعة الماضية، تزخر الصحف السويدية، يومياً، بملفات كاملة وعناوين بارزة، تتابع من خلالها كل ما يختص بالحادث، لا توفر في ذلك معلومة مطلقاً، سواء كانت بحجم الإبرة أو حجم الفيل، باستثناء المعلومات التي تفرض الجهات الأمنية طوقاً عليها. وتولي أجهزة الأمن في الدول الأوروبية، أهمية خاصة لكل هجوم إرهابي يقع في أي بلد من البلدان الأوروبية، ربما لجهة ما بات يشكله الإرهاب من تهديد أمني عالمي خطير على تلك الدول، التي لم تكن تتوقع أن تصلها يد الغول التي تفتك في بلدان الشرق الأوسط. ما الذي حصل بالضبط؟ ما حصل، أن المتسوقين في شارع الملكة، الذي يقع في قلب العاصمة ستوكهولم، ويتميز بازدحامه الشديد على مدار اليوم، تفاجأوا بمرور شاحنة، كانت تسير بسرعة البرق بينهم في شارع مخصص للمشاة فقط، حتى أن تمثالي أسد كبيرين وضعا على جانبي الطريق، لإعاقة سير المركبات المخالفة، لم ينجُوَا من الهجوم الإرهابي. لم يستغرق الأمر غير وقت قصير، حتى تحول الشارع هذا إلى مذبحة، في نظر السويديين، الذين لم يعتادوا رؤية أجساد ضحايا ودماء في الشارع، البعض من الناس، التزم مكانه لم يتحرك من هول الصدمة، طبعاً، فإدراك ما حدث كان يحتاج الى وقت، ومن حسن الحظ، أن أولئك الأشخاص لم يكونوا في منطقة الخطر تماماً، بل قريبين منها. والنتيجة، أربعة قتلى، بينهم فتاة، تبلغ من العمر 11 سنة، كانت في طريقها من المدرسة الى البيت، ومثل هذا الأمر يعني الكثير بالنسبة إلى السويديين، الذين ينظرون إلى قتل أرنب أو أذية كلب على أنه حادث خطير، يجب أن يعاقب عليه القانون، فما بالك، بقتل طفلة وسط الشارع في وضح النهار على يد شخص، قرر قتل أناس أبرياء. منذ يوم الجمعة الماضية، وصورة منفذ الهجوم رحمت عقيلوف وتفاصيل عن حياته، تستحوذ على مساحات كبيرة من صدر الصفحات الأولى في كبرى الصحف السويدية، فرصة لا ينالها غير نجوم هوليوود، بفارق أن الذاكرة تأبى نسيان مرتكبي الجرائم الإرهابية الخطيرين. وصل عقيلوف إلى السويد عام 2015 وتقدم بطلب لجوء فيها، لكنه حصل على قرار بالرفض والترحيل من مصلحة الهجرة السويدية في شباط (فبراير) العام الحالي 2017، ما يعني أن اسمه ومنذ ذلك الحين، أصبح مدرجاً ضمن قوائم شرطة الحدود، من أجل تسفيره إلى خارج البلاد، في حال لم يشأ مغادرتها طوعاً. ووفق بالشرطة السويدية، فإن معلومات حصلت عليها في السابق، لم تشأ الإفصاح عنها، أشارت الى ما قد يشكله عقيلوف من خطر محتمل، غير أنها لم تتمكن من القبض عليه، لأنه وبعد أسبوعين فقط من صدور قرار الترحيل بحقه، وهو الوقت نفسه الذي بدأت فيه الشرطة، عملية البحث عنه، اختفى من عنوانه المسجل لدى المصلحة والشرطة، ولم يجر القبض عليه إلا بعدما نفذ هجومه الإرهابي. وبعد ساعات قليلة فقط من وقوع الهجوم الإرهابي، نشرت الشرطة السويدية، لقطتين من صورة عقيلوف، ذكرت حينها، بأنها تبحث عن الشخص صاحب الصورة، كمشتبه به في الجريمة، في هذا الوقت بالذات، كان عقيلوف وبعد أن تمكن من مغادرة موقع الحادث، وهو مصاب بجروح طفيفة فقط خلفتها قوة اصطدام مقدمة الشاحنة بجدار متجر أولينس الشهير، دخل متجراً في إحدى محطات الوقود في ستوكهولم، وتحدث بصوت مرتفع عن أنه هو منفذ الهجوم في ستوكهولم. ما دعم مزاعمه تلك، التوتر الشديد الذي بدا عليه، ما أدى إلى اتصال أشخاص، كانوا في المتجر بالشرطة، التي لم توفر وقتاً في الحضور، حيث حضرت قوة كبيرة جداً، واقتادت عقيلوف من مسكنه غير المدرج عنوانه لدى الشرطة في ضاحية شيستا، شمال غربي ستوكهولم، التي كان يعيش فيها أيضاً محمد بلقايد، المشتبه بضلوعه في تفجيرات باريس. وفي تقارير أوردتها الشرطة بعد ذلك، أكدت أن عقيلوف وأثناء عملية اعتقاله، لم ينف مسؤوليته عن الحادث، بل أكدها، فيما طالب في وقت آخر، بتعيين محامٍ مسلم، الأمر الذي رفضته المحكمة، لغياب الأسباب الكافية. التحقيق في قضية عقيلوف، ربما كان من بين أكثر التحقيقات التي أنجزتها الشرطة السويدية في وقت قياسي، لاعتراف منفذ الهجوم بجريمته وتأكيده القيام بها أكثر من مرة، آخرها كان ضمن أول جلسة عقدتها محكمة ستوكهولم الابتدائية، الإثنين الماضي. الدوافع وخلال الأيام القليلة الماضية، انشغل باحثون ومختصون في شؤون الإرهاب في السويد والنروج، بتحليل دوافع عقيلوف لتنفيذه الهجوم الإرهابي، وفيما إذا كان ذلك بسبب أيدلوجيته العقائدية أم بسبب المنعطفات الحادة التي تخللت حياته، وتوصلوا متفقين الى أن كلا الأمرين، يشكلان دعامتين قويتين للقيام بمثل هذه الأعمال. ووفقاً لتقارير صحافية أوزبكية، فإن عقيلوف نشأ وترعرع في مدينة سمرقند في أوزبكستان، وكان أبعد ما يكون عن التطرف، تزوج من امرأة كانت تعمل في التجارة مع تركيا، وأنجب منها أربعة أولاد، ثم طلقها عام 2012، وترك بلده مغادراً الى تركيا ومنها الى السويد، التي رُفض فيها طلب لجوئه. يعيش طالبو اللجوء في السويد، الذين صدرت بحقهم قرارات بالترحيل، وهم بالآلاف، ويرفضون الاستجابة لتلك القرارات في ظروف شبه مستحيلة، اقتصادياً واجتماعياً والأهم نفسياً. فهم أولاً وقبل كل شيء، لا يُعتبرون مواطنين في السويد، وبالتالي ليست لديهم أية حقوق في هذا البلد، لا في مجال الصحة ولا في العمل ولا في السكن، ما يعني العيش على الهامش تماماً، وهذا يخلف تراكمات نفسية خطيرة، تنتهي في العديد من الحالات إلى الانتحار. القانون هو السائد في السويد، والقوانين واضحة جداً ولا تتحمل أي مرونة في هذه القضايا، حتى وإن كانت هناك ظروف خطيرة تنتظر الشخص الذي يتم ترحيله الى بلاده. لم ينشأ عقيلوف في أجواء متشددة، كما أنه لم يكن على معرفة بأبسط العناصر الأساسية في الإسلام، وفقاً لما ذكره أحد المقربين منه في السويد، إذ يقول، في المرة التي رافقني فيها الى المسجد «لم يكن يعرف حتى كيف يصلي»، لكنه كان يقول، إن «أخواننا في سورية، هم فقط من يفعل الشيء الصحيح، أنهم ينقذون حياة المسلمين من النساء والأطفال». وفي السويد، اتخذ عقيلوف مسلكاً آخر مخالفاً لما تدعو إليه الأفكار الجهادية العقائدية، وهو الإدمان على المخدرات. وكان يقضي معظم أوقات نهاره في النوم والتدخين، وفق أحد زملائه السابقين، الذين عملوا معه في شركة لتنظيف المنازل. ووفقاً لمصادر حكومية، فإن من المتوقع أن يقضي عقيلوف بقية حياته في السجن، فيما إذا جرت إدانته من قبل المحكمة، وهنا تجدر الإشارة، إلى أن بعض مرتكبي الجرائم في مثل هذه الحالات، قد يسعون إلى قضاء حياتهم في السجون السويدية، بدل ترحيلهم إلى أوطانهم، لما يجدونه فيها من مميزات، تفوق تلك التي يحصلون عليها كمواطنين في بلادهم، وهذا ما أقدم على فعله طالب لجوء أرتيري، قام بقتل سيدة سويدية وأبنها، طعناً بالسكين في متجر إيكيا بمدينة فيستروس عام 2015، لأسباب غير سياسية، بل لحصوله على قرار رفض من مصلحة الهجرة. وتحاول الحكومة السويدية، دائماً وفي مثل هذه المواقف، رص صفوف الشعب السويدي، وعدم ترك الأحزاب والمنظمات اليمينية المتطرفة تصطاد في الماء العكر، للخطورة التي يشكلها تنامي شعبية هذه الجماعات، التي لا تقل تأثيراتها الهدامة عن تلك التي تحملها التيارات الدينية المتطرفة.