قُل ما شئت عن جوليان أسانج مؤسس موقع «ويكيليكس» الذي قام بنشر مئات الآلاف من الوثائق السرية الأميركية. فهو في نظر البعض مجرد شاب مقامر (37 سنة) يهوى التلاعب والقرصنة بشبكة الانترنت ويجيد التعامل مع «عالم الأسرار»، وفي نظر البعض الآخر هو شخص فوضوي يحمل إيديولوجية فوضوية تتحدى فكرة الدولة وسيادتها وتنحو باتجاه الليبرالية العدمية التي لا تعرف القيود، في حين يراه آخرون شخصاً انتهازياً يسعى لتحقيق مكاسب مادية وذاتية. على رغم كل ما سبق سيظل ما فعله أسانج علامة فارقة ليس فقط في حقول الصحافة والعلاقات الدولية والقانون الدولي والديبلوماسي، التي سوف تشهد مرحلة ما بعد «ويكيليكس»، وإنما أيضاً في تاريخ العلاقة بين الفرد - المواطن والدولة أو «التنين» كما وصفها توماس هوبز (1588-1697). ولعل هذا هو المعنى الكامن خلف عملية «التعرية» التي قام بها أسانج للقوة العظمى الأولى في العالم، والتي بدت خلال الأسابيع الماضية كما لو كانت «بطلاً من ورق» لا يستطيع حماية بيته من الاختراق. ما فعله أسانج بالنظام المعلوماتي الأميركي جعل الجميع يتحسّس ملفاته السرية، وسوف يدفع بالكثيرين من الآن فصاعداً كي يراجعوا همساتهم ولغتهم وعلاقاتهم الدبلوماسية. وهو إن كان قد نجح في اختراق «العالم التحتي» للاستخبارات الأميركية وأجهزتها المحمية، فإن اختراقه أنظمتنا المعلوماتية وشفراتها الالكترونية سيكون أشبه بلهو طفل بكرة بلاستيكية يقذفها في أي اتجاه ووقتما يشاء. أسانج، الشخص والظاهرة، هو ابن مرحلة «ما بعد الحداثة» وممثلّها ولكن في أشد صورها تطرّفاً وهي النسبية المطلقة، تلك التي لا تعرف الانضباط ولا تعترف بمركزية المعرفة أو احتكارها. ولا يتعلق الأمر بمجرد فتحه «مغارة علي بابا» الأميركية، وهو أمر يقتضي التأمل بحد ذاته، وإنما بتحويل أسرارها وكنوزها إلى ملكية عامة ومادة للتسلية والدردشة تتقاذفها الفضائيات وشبكة الانترنت، في حين هرولت واشنطن للململة تداعيات التسريبات أو وقف تدفقها. «حكاية» أسانج (الشخص) هي أقرب الى فيلم هوليودي كلاسيكي. فلوهلة تذكّرك ملامحه الهادئة بأحد أولئك المرضى المصابين بخلل سيكولوجي نتيجة تعرضهم لمشاكل شخصية في الصغر، ما حوّله إلى شخص ناقم ومتمرد على المجتمع ورافض لكل ما هو حوله. وبالفعل، فقد تعرّض أسانج لسيناريو مشابه في صغره، فبحسب سيرته الشخصية على شبكة الانترنت، فهو لا يعرف أباه ولا يحمل اسمه وإنما يحمل اسم زوج أمه بريت أسانج، التي ما لبثت أن تزوجت شخصاً آخر أنجبت منه أخاً لأسانج، وأخذت كلا الطفلين واختفت لمدة خمس سنوات بسبب مشاكل قضائية مع زوجها. أي أن أسانج هو ابن عائلة مفكّكة وصورة مكرّرة من تلك الشخصية الكلاسيكية التي تجسدّها الدراما الأميركية (هل انقلب السحر على الساحر؟). وتزداد المفارقة (أو تكتمل الحبكة الدرامية) إذا عرفنا أن أسانج غير حاصل على أي مؤهل جامعي سوى قضائه أسابيع قليلة في دراسة متقطعة للفيزياء والرياضيات، انصرف بعدها (وهنا إحدى نقاط التشويق الدرامي) الى دراسة الفلسفة وعلم الأعصاب. وقد بدأ عملية القرصنة على شبكة الانترنت وهو في السادسة عشرة بعدما أسس مع اثنين من أصدقائه شبكة أطلقوا عليها اسم «جماعة المخرّبين الدوليين» (لاحظ تصاعد الأحداث) كان شعارها «لا تخرّب المواقع التي تخترقها، فقط انشر ما بها من معلومات»، وما لبث أن حوكم بأكثر من 24 تهمة قرصنة واختراق لمواقع الكترونية في استراليا وكندا. وتزداد الإثارة إذا عرفنا أن أسانج أنجب طفلاً من صديقته وهو في سن التاسعة عشرة، وما لبث أن انفصل عنها ودخل في مشاكل قضائية من أجل حضانة ابنه (هنا فلاش بكل مأساته الشخصية). بعدها، وفي تحول مثير من الخاص إلى العام، انطلق أسانج كي ينتقم من العالم الخارجي ويتمرد على حدوده وقيوده فساهم في نشر أول كتاب له عام 1997 بالتعاون مع «متمرد» أخر هو سيوليت دريفوس تحت عنوان «تحت الأرض .. حكايات من الجنون والقرصنة والهوس الالكتروني» Underground: Tales of Hacking, Madness and Obsession on the Electronic Frontier الذي يحكي تاريخ القرصنة والهوس باختراق المواقع الالكترونية. كانت النقلة النوعية في مسيرة أسانج هي تأسيس موقعه الشهير «ويكيليكس» عام 2006 تحت شعار «الانتقام من الأنظمة غير العادلة»، وهو قد حدد فلسفة الموقع بقوله: «كلما تمادت هذه الأنظمة في سريتها وظلمها، كلما أصابتها التسريبات بمزيد من الجنون والخوف ... إن الأنظمة غير العادلة تنتج معارضيها الذين لن يتورعوا عن استبدالها بأنظمة أخرى أكثر عدالة». ومع قيام «ويكيليكس» انتقل أسانج – الشخص إلى أسانج – البطل أو الظاهرة، (هنا قمة الإثارة الدرامية) وتغيرت صورته عن ذاته وصورة الآخرين عنه من مجرد شخصية معقّدة نفسياً إلى متمرد ومعارض للهيمنة الأميركية (أو الفتوّة بلغة نجيب محفوظ) كي يجذب له ملايين المؤيدين والمتعاطفين الذين رفعوا صورة مناضلهم الكلاسيكي تشي غيفارا من صفحاتهم على «الفيس بوك» كي يضعوا مكانها صورة أسانج مناضل الثورة المعلوماتية. وكي يتم إيقاف «أسانج - البطل» عن بثّ المزيد من التسريبات التي كشفت المصائب الأميركية في أفغانستان والعراق، جرى التفكير في كيفية الإيقاع به. وعلى طريقة «جيمس بوند»، تمت دعوته إلى السويد في آب (أغسطس) الماضي للمشاركة في مؤتمر حول تكنولوجيا المعلومات نظمته إحدى السيدات التي أقنعت أسانج باستضافته في منزلها لمدة أسبوعين واتهمته لاحقاً باغتصابها. وهنا انقلب المشهد وبدأ الصراع بين البطل والفتوّة (أو الخير والشر)، فأصدرت السويد مذكرة اتهام لأسانج على خلفية هذا الادعاء، في حين أصدر الانتربول الدولي إنذاراً باعتقاله، فاضطر أسانج إلى تسليم نفسه للشرطة البريطانية أوائل الشهر الجاري فانتفض مؤيدوه ومريدوه، مطالبين بالإفراج عن بطلهم الجديد. واستمرت المطاردة بين أسانج ومعارضيه حين قام مؤيدوه قبل أيام بتدمير بعض المواضع الحيوية الأميركية علي شبكة الانترنت رداً على اعتقاله، ووصلت الإثارة الى قمّتها حين هدّد أسانج بتفجير قنبلة «نووية» معلوماتية إذا تم الحكم بسجنه. وبغض النظر عن دراما أسانج التي شغلت العالم ولا تزال، فقد حققّت له ما أراد، وحوّلته بين عشية وضحاها من شخص مغمور و «مجرم» إلكتروني، إلى نجم عالمي تتلهف عليه وسائل الاعلام بكافة أنواعها، ويتم توزيع جوائز صحافية وإعلامية تحمل اسمه وتتباهى بما حققه، وقطعاً سوف تتوقف معاهد الصحافة والسياسة والتاريخ كثيراً أمام ما فعله هذا «الطفل المتمرد» بالعالم. * أكاديمي مصري - جامعة دورهام، بريطانيا