اتفقت مجموعة «5 زائد 1» وايران خلال اجتماع «جنيف 2» على اللقاء مرة أخرى في اسطنبول في نهاية كانون الثاني (يناير) 2011 من أجل مواصلة بحث مشكلة طبيعة البرنامج النووي الايراني وإمكانات التعاون المحتمل في حال اتجهت الجهود نحو كشف الأسرار النووية الايرانية. وشكل الاعلان نافذة تبعد شبح الفشل وسيناريوات التهديدات، اقله لأسابيع عدة. لكن قَلَّ من يجرؤ على التفاؤل بنتائج الجولة المقبلة بحكم تجربة جرّ الخطى المماطلة وتهرُّب ايران من الرد على التساؤلات المطروحة. ففي لقاء «جنيف واحد» في مطلع تشرين الأول (اكتوبر) 2009، اعتبر كثيرون قبول الجانب الايراني مبدأ مبادلة الجزء الأكبر من مخزون اليورانيوم (إلى فرنساوروسيا) في مقابل الوقود «اختراقاً» دبلوماسياً، حيث حدد الطرفان موعداً للقاء في فيينا مع خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية لتمهيد تفاصيل الصفقة بين شهري تشرين الأول وتشرين الثاني (نوفمبر) 2009. لكن الوفد الايراني لم يأت إلى فيينا: لماذا تغيب في 2009 وحضر إلى جنيف في 2010؟ وكيف تقوم مباحثات «جنيف 2» مقارنة مع جنيف واحد؟ وماذا يتوقع من اجتماع اسطنبول؟ ديبلوماسي كبير تحدث إلى «الحياة» عن مباحثات «جنيف 2» يقول إنها « كانت مفصلة وجوهرية» على مدى يوم ونصف اليوم جرت خلالها ثلاث جلسات عامة وأخرى شهدت لقاءات ثنائية بين كل من ممثلي الدول الست والاتحاد الأوروبي من ناحية وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي الايراني سعيد جليلي. وشرح ممثلو الولاياتالمتحدة، بريطانيا، روسيا، الصين، فرنسا، المانيا والاتحاد الأوروبي دوافع المخاوف الدولية والإقليمية من البرنامج النووي الايراني. وردَّ عليهم جليلي في أكثر من مرة. وللمقارنة، فان اجتماع «جنيف واحد» انتهى في ظهيرة اليوم نفسه. لكن، هل يعني ذلك أن جولة مطلع كانون الأول (ديسمبر) 2010 أحدثت اختراقا ما؟ لا، بحسب قول الدبلوماسي الأوروبي. إذاً، هل يمكن القول إن الجانبين قطعا في جنيف خطوة أولى في مسار تفاوضي؟ الإجابة هي أن لا وجود لمسار في الظرف الراهن، إنما هي «خطوة» فقط مكنت الجانبين من اللقاء مرة أخرى. وقد لا تكون الأخيرة إذا قبلت طهران وضع روزنامة مباحثات للرد على التساؤلات القائمة في شأن طبيعة البرنامج النووي الايراني وخطة للتعاون مع الأطراف الدولية في المجالات الصناعية والسياسية والأمنية. لذلك، فان لقاء اسطنبول يكتسب أهمية كبيرة لأنه سيمكن فيه بحث تفاصيل المفاوضات حول البرنامج النووي الايراني وآفاق التعاون الواردة في حزمة الحوافز التي كانت عرضت على ايران في 2008 و التي لا تزال على الطاولة. وقبول الدول الغربية عقد اللقاء في اسطنبول إشارة «إيجابية» في اتجاه كل من ايران، التي تريد إدماج تركيا بصفتها دولة كبيرة في المنطقة ما فتئ تأثيرها يتزايد في القضايا الساخنة التي تمس الاستقرار والأمن الاقليميين، كما تستهدف الإشارة تركيا المرشحة لأن تكون مكان تنفيذ صفقة تصدير اليورانيوم الايراني في مقابل الوقود الروسي الفرنسي. وتطالب أنقره، على الصعيد الديبلوماسي، الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة بإشراكها في بحث القضايا التي تهم المنطقة لأنهما تؤثران في أمنها ومصالحها الحيوية، سواء تعلق الأمر بخيارات السلم أو مد شبكات الطاقة وحل مشكلة البرنامج النووي الايراني أو توسيع حلف شمال الأطلسي مظلة الدروع الصاروخية لمواجهة التهديدات الباليستية، التي قد تهدد أمن أعضاء الحلف من ايران وكوريا الشمالية. وتشير مصادر دبلوماسية على صلة بالعلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي إلى وجود «حوار بنّاء» بين منسقة السياسة الخارجية الأوروبية كاثرين آشتون ووزير الخارجية احمد داود اوغلو. ويتجاوز هذا الحوار أزمة الدول الغربية مع ايران ليشمل العوائق التي تعترض مستقبل عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي. وقد تضطلع بدور ما، وراء الكواليس، في اللقاء المقبل بين مجموعة «5 زائد واحد» وايران في اسطنبول. ونقلت وكالة أنباء الأناضول عن الناطق باسم وزارة الخارجية التركية سلجوق أونال قوله يوم السبت 11 الجاري ان «تركيا ليست بلداً طرفاً في المحادثات، لكن، بصفتها بلداً يؤْمن بالديبلوماسية، فهي ستبذل كل ما في وسعها إذا طُلب منها المساهمة خلال الاجتماع وبعده». أزمة الثقة وتحدث الدبلوماسي الأوروبي إلى «الحياة» عن «المناخ الصعب» الذي تجري فيه المباحثات بين المجموعة الدولية وايران، «لكن جولة جنيف الثانية شهدت نوعاً من المشاعر الانسانية». وتمكن مبعوثو المجموعة الدولية من شرح الأسباب التي تثير قلق المجموعة الدولية. لكن رد سعيد جليلي كان معهوداً و «خالياً من المفاجآت» وشمل عرضاً سياسياً مطولاً عن تطلعات ايران إلى أن تكون دولة ذات قدرات صناعية وسياسية مؤثرة في المنطقة. وتوقف الوفد الايراني مرة أخرى عند «المخاوف الحقيقية من برنامج طهران النووي، حيث قدم كل من الوفود بأساليب مختلفة قرائن المجموعة الدولية والوكالة الدولية للطاقة الذرية». وعكس ما ورد في التصريحات الايرانية، فان «ثلاثة ارباع الوقت خصصت للملف النووي الايراني ووجوب امتثال ايران للقرارات الدولية». وستتركز الجولة المقبلة في اسطنبول، إذا ما عُقدت، حول «الأفكار العملية وآفاق التعاون» بين الجانبين. وكانت آشتون الوحيدة التي تحدثت في بيانها عن آفاق عملية، فيما تركز حديث سعيد جليلي إلى الصحافة الدولية عن طموحات ايران وتغير موازين القوى ورفض بلاده التفاوض حول حقوقها المشروعة في امتلاك التكنولوجيا النووية. وعقَّب الديبلوماسي الأوروبي بأن المشكلة «لا تكمن في صعوبة أزمة الملف النووي، لأن المجموعة الدولية قدمت طلبات واضحة وتنتظر ردوداً واضحة»، مثل فتح المنشآت النووية أمام المفتشين الدوليين ووقف نشاطات التخصيب إلى حين التثبت من طبيعة البرنامج والتساؤلات القائمة حول أبعاده العسكرية، وجليلي يعلم ذلك. «لكن المشكلة تكمن في أزمة الثقة والهوة المتسعة بين الجانبين». وقد تراكمت الشكوك في غضون القطيعة التي دامت أربعة عشر شهراً بين جولتي جنيف وتخللها الكشف عن مفاعل سري قرب مدينة قم، واعلانات ايران زيادة معدلات التخصيب من 4 إلى 20 بالمائة في مفاعل «نطنز» من أجل انتاج الوقود النووي الضروري لتشغيل مفاعل الأبحاث النووية والطبية في طهران، ومضاعفة مخزونها من اليورانيوم من 1500 كيلوغرام تقريباً في خريف 2009 إلى أكثر من 3000 كليوغرام في الربع الأخير من 2010. «فأزمة الثقة تبدو أحيانا أصعب من الأزمة النووية». ومن الناحية النظرية، فان كمية اليورانيوم لدى ايران تكفي لصنع أكثر من قنبلة نووية واحدة. ويعتقد بعض الخبراء في أن رفع ايران مستوى التخصيب إلى 20 في المئة يقرِّبها من مراحل التخصيب لأغراض عسكرية. كما نسبت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى طهران، في تقرير شباط (فبراير) الماضي، تطوير صواريخ باليستية لحمل رؤوس تقليدية وغير تقليدية. إلا أن وجود مؤشرات عدة واتهامات ضد ايران لا تعني أن الأخيرة تمتلك السلاح النووي. ويقول الديبلوماسي الأوروبي إن «تقديرات الاستخبارات أشارت في منتصف التسعينات إلى امكانية حصول ايران على السلام النووي في غضون العقد، والآن هي تتحدث عن سنة أو سنتين. لكنها تقديرات استخبارية يصعب التثبت من صدقيتها. كذلك، فان صنع السلاح النووي يعني أن الدولة المعنية ستصنع قنابل نووية ووسائل إطلاقها، فهل بلغت ايران هذه المرحلة؟ وقبل كل شيء هل اتخذ القرار بصنع القنبلة النووية». وقابلت المجموعة الدولية مماطلات ايران بتشديد العقوبات في منتصف العام 2010 وساندتها الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي بإصدار عقوبات أحادية الجانب استهدفت عصب الاقتصاد الايراني أي قطاعات المصارف والتامين والشحن والاستثمارات وتكنولوجيا الطاقة. وقد يكون تأثير العقوبات ضمن اسباب موافقة ايران على العودة إلى طاولة المفاوضات. وخيار زيادة تشديدها يمثّل سلاحاً مسلولاً ضد ايران رغم الانقسامات القائمة تقليدياً بين الدول الغربية من ناحية والصين وروسيا من ناحية أخرى إزاء دعوات تشديد عزلة النظام الايراني. وقال مستشار الرئيس اوباما لشؤون مراقبة التسلح إن «الولاياتالمتحدة وحلفاءها مصممون على إحكام الضغط على ايران بل على زيادته». وذكر غاري سامور الجمعة 11 الجاري، أي بعد لقاءات جنيف، أن «هناك حاجة لإطلاق رسالة إلى ايران تفيد بأن العقوبات ستزداد شدة إذا رفضت التفاوض، ولن تُرفع حتى الرد على المسائل التي تثير قلق» المجموعة الدولية. حزمة الحوافز على الطاولة وينتظر أن يقوم كل من الأطراف الدولية في غضون الأسابيع قبل نهاية العام 2010 وفي بداية 2011 بمراجعة الموقف بعد عودة ايران إلى طاولة المباحثات. وجددت المجموعة الدولية الاعتراف بحق ايران في امتلاك الطاقة النووية السلمية واقتراح التعاون معها في هذا المجال وفي المجالات الأخرى ضمن حزمة الحوافز. ويرجح أن تكون مشكلة نقص الوقود الضروري لتشغيل مفاعل طهران احد الاجراءات التي قد تبحث في اسطنبول. ويرى ديبلوماسيون أن افتقاد مفاعل طهران للوقود النووي واحتمال توقف مسار انتاج النظائر المشعة «هما مشكلة ايران، لكن المجموعة الدولية مستعدة للمساعدة على ايجاد الحل» ضمن اجراءات بناء الثقة، إلا أن المباحثات لا تزال في مربعها الأول. ورأى محاورون على هامش «جنيف 2» أن من المبكر الخوض في معادلات وقف نشاطات التخصيب في مقابل وقف العقوبات «ولم يطرح الأمر بهذه الصيغة على طاولة المباحثات». لكن المعادلة ستطرح في اسطنبول ضمن مجموعة حوافز تشجيع ايران على التجاوب مع «اليد الممدودة». وهي الحوافز نفسها تقريباً التي عرضت على طهران في 14 حزيران (يونيو) 2008 وتشمل «الاعتراف الدولي بحق ايران في انتاج الطاقة النووية واستعمالها لأغراض سلمية وفق التزاماتها بمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية والتعامل مع البرنامج النووي الايراني متى استعيدت الثقة على الصعيد الدولي للطابع السلمي الحصري للبرنامج النووي». وهنا مكمن المشكلة، فالدول الغربية وجيران ايران في المنطقة يشكون في طبيعة البرنامج الايراني ويريدون إضفاء الشفافية التي تقتضيها طبيعة الأنشطة النووية في مقابل أن تتعاون مع ايران في المستقبل في نشاطات التخصيب وانتاج الوقود. وألمحت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون خلال توقفها في مؤتمر المنامة الأمني في 3 و4 كانون الأول 2010 إلى أن الولاياتالمتحدة لا تعارض مبدأ التخصيب في ايران. وأوضح مصدر مطلع الى «الحياة» بأن اجراءات بناء الثقة تبدأ بالرد على التساؤلات والسماح بنشاط مراقبي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وعندما تتضح الحقيقة السلمية للبرنامج النووي يمكن الانتقال إلى مرحلة تزويد ايران التكنولوجيا والوقود النووي. وتشمل حزمة الحوافز الدولية تقديم الدعم لبناء مفاعلات سلمية وضمانات ملزمة قانوناً بالإمداد النووي والتعاون في إدارة الوقود المستهلك والنفايات المشعة. وعلى الصعيد السياسي تستجيب الحوافز لتطلعات ايران، وتقتضي مثلاً «دعم ايران من أجل اضطلاعها بدور هام وبناء في الشؤون الدولية والعمل معها ومع غيرها من دول المنطقة على تشجيع تدابير بناء الثقة وتعزيز الأمن الإقليمي». كما تتضمن العروض حوافز لدعم الاستثمار والصناعة والتعاون البيئي ومكافحة المخدرات ودعم الاستقرار في افغانستان والعراق. وستكون جولة اسطنبول اختباراً آخر لكل من الجانبين. ولتفادي المفاجأة السلبية، يقلل الدبلوماسيون من سقف التوقعات أسوة بما فعلوا بالنسبة الى لقاء «جنيف 2». ويقولون: سعينا الى استئناف المباحثات وهذا ما تحقق في السابع من هذا الشهر. لكن، لا أحد يجرؤ على تكهن نتائج الاجتماع المقبل في اسطنبول باستثناء ثقة البعض في حضور سعيد جليلي إلى عاصمة الدولة العثمانية السابقة في نهاية شهر كانون الثاني 2011.