لم يمر مطلع كانون الأول (ديسمبر) هادئاً على مدينة زيوريخ، والتي كانت تراوح بين البرودة القصوى والثلوج المتساقطة والحرارة المرتفعة لأحداث السباق نحو استضافة نهائيات كأس العالم لعامي 2018 و2022 والتي فازت بهما روسيا وقطر على التوالي بعد صراع مع الملفات ال9. الأضواء المسلطة على فساد السلطة الكروية الأعلى كان مدار أحاديث الوسائل الإعلامية وعشاق كرة القدم على مستوى العالم، وكان «الفيفا» مطالباً بإثبات نزاهته أمام الجميع، خصوصاً في ظل اقتراب جولات التصويت التي باتت متهمة ب«بيع الذمم»، حتى بعد قرار اللجنة الأخلاقية بإيقاف عضوين من أعضاء المكتب التنفيذي، وهما التاهيتي رينالد تيماري والنيجيري آموس آدامو، لكن كل تلك الأحاديث تحولت في اللحظة الأخيرة إلى الاتجاه المعاكس، إذ بدأت التسريبات قبل الانتخابات ب72 ساعة عن تحركات داخل «الفيفا» لاستبدال تيماري بشخصية بديلة تحت مبررات أن الاتحاد الأوقياني لم يعد ممثلاً في المكتب التنفيذي، إلا أن اشتراط استقالة تيماري من منصبه كان عائقاً أمام إتمام «العملية»، والتي كانت ستتيح صوتاً إضافياً في المكتب التنفيذي يُعفي بلاتر من ترجيح الكفة فيما لو تساوت «الأصوات»، وجهت سؤالاً لمسؤول بارز في أحد الملفات المتقدمة عن رأيه فقال لي: «أي صوت الآن بإمكانه أن يرجح كفة عن أخرى، لذلك أعتقد أنهم سيفعلون المستحيل لاستبدال رينالد، الكل يعرف سيصوت لمن، ولذلك سيأتي بديل»، لكن استقالة رينالد كانت تعني اعترافه بالتهم الموجهة له، وهو ما كان المراقبون لا يتوقعون أن يُقدم عليه. السؤال الثاني الذي كان يدور في الأذهان هو السبب عن الحديث عن استبدال تيماري من دون الحديث عن استبدال أفريقيا لآموس آدامو، لكن الإجابة كانت في اختلاف نظام الاتحاد القاري لكل من أوقيانيا وأفريقيا، إذ لا تتيح الثانية التصرف ذاته إلا بعد مرور أكثر من نصف المدة على عضو المكتب التنفيذي، علماً أن رئيس الاتحاد الجزائري محمد روراوة أكد نيته الترشح لاحتلال المنصب ذاته، وهي التصريحات التي بلغت مداها وكان صداها يتردد لدى جميع الموجودين في زيورخ. يومها وجهت سؤالاً إلى مسؤول فاعل في «الفيفا» عن إمكان استبدال تيماري في ظل ضيق الوقت، فأجابني بابتسامة عريضة، قائلاً: «كل شيء ممكن»، وعندما سألته: هل يمكن أن يتم ذلك الساعة التاسعة صبيحة يوم الخميس؟ رد بضحكة مقهقهة وربَت على كتفي قائلاً: «من الممكن أن يتم ذلك الساعة التاسعة وخمس دقائق». إمكان حلول بديل لتيماري في اللحظات الأخيرة عززها أمران؛ الأول بيان صحافي للفيفا بتوقيع الأمين العام غيروم فالكه أكد من خلاله أن بديل تيماري يستطيع «بصورة فورية المشاركة في اجتماعات اللجنة التنفيذية للفيفا في حال قبول تيماري قرار لجنة التأديب»، والأمر الثاني هو وصول نائب رئيس الاتحاد الأوقياني ديفيد شونغ بصورة عاجلة إلى سويسرا. وعلى رغم أن الاتحاد الأوقياني لا يعد من الاتحادات البارزة قارياً ولا تمثل أنديته أو منتخباته رقماً مميزاً في الساحة الرياضية الكروية العالمية، إلا أنه خلال الأيام القليلة التي سبقت الأنظار كان محط أنظار الجميع ترقباً للصوت الإضافي «المحتمل». لكن كل تلك المحاولات اصطدمت برفض تيماري تقديم استقالته كما كان متوقعاً، وهو الأمر الذي تأكد مساء يوم الثلثاء السابق للتصويت، فلم يعد مدار حديث مجدداً. وفي دائرة الحديث عن «الرشاوى» كان الجميع يترقب برنامج بانوراما على قناة بي بي سي، والذي كان من المنتظر أن يتحدث عن مزيد من اتهامات الفساد، وعن المناطق المظلمة في مفاصل «الفيفا» وسط أحاديث عن محاولات قامت بها أطراف عدة لثني القناة الإنكليزية عن بث البرنامج إلا أن المحاولات باءت بالفشل ليتابع الجميع البرنامج الذي وجه اتهامات صريحة ل3 من أبرز أعضاء المكتب التنفيذي وهم نيكولا ليوز وعيسى حياتو وريكاردو تيكسيرا بالحصول على أموال من شركة لتسويق الأحداث الرياضية مقابل منحها حقوقاً مجزية لتنظيم كأس العالم، موضحاً تلقيهم مبالغ مالية تصل إلى 100 مليون دولار، وعلى رغم الأصداء «السلبية» التي سببها البرنامج إلا أن «الفيفا» رفض التعليق على أي مما ورد في البرنامج الذي ذاعت أنباؤه في أرجاء المعمورة كافة، ما حدا بأحد صحافيي ال بي بي سي بأن يكتب مقالاً بعنوان: «البي بي سي تكتب عن البي بي سي» مبتهجاً بأصداء البرنامج الذي أضحى محور وكالات الأنباء العالمية. قبل كل تلك الأحداث الساخنة بنحو أسبوع أي في ال24 من تشرين الثاني (نوفمبر) أقام الاتحاد الآسيوي لكرة القدم حفلة جوائزه السنوية في العاصمة الماليزية كوالالمبور وكانت تلك المناسبة فرصة مواتية للملفات الآسيوية ال4 (أستراليا وقطر وكوريا الجنوبية واليابان) لوضع لمساتها الأخيرة على الصعيد القاري ولتبادل الآراء حول آخر الاستعدادات للجولة الحاسمة في عاصمة «الفيفا»، خصوصاً أن استضافة كأس العالم 2022 كانت أمام مسارين؛ إما أن تذهب إلى القارة «الصفراء» وإما إلى الولاياتالمتحدة الأميركية، وفي تلك الأثناء كانت لعبة التصريحات تسير على طريقة مباريات التنس، ضربة من اللاعب رقم 1 يرد عليها اللاعب المقابل، فبعد تصريح لعضو المكتب التنفيذي تشاك بلايزر لمجلة «وول ستريت» قال فيه: «تستطيع أن تكيّف الملاعب، لكنك لا تستطيع تكييف بلد بأكمله»، في تعليق على وضع الملف القطري، رد رئيس الاتحاد الآسيوي محمد بن همام قائلاً: «الحرارة بلغت 50 درجة مئوية في مونديال 1994». أما على الصعيد «الأوروبي» في منافسة 2018 فكانت الاتهامات متبادلة بين الملفين الروسي والإنكليزي، إذ رد رئيس ملف روسيا اليكسي سوروكين على سؤال لصحيفة «سبورت اكسبرس» عن رده على اتهامات الصحف الإنكليزية لبلاده ب«العنصرية»، قائلاً: «لا نريد الدخول في الزواريب، وليس سراً على سبيل المثال أن معدل الجريمة في لندن مرتفع جداً مقارنة ببقية البلدان الأوروبية، كما أن شبابها الأكثر إسرافاً في إدمان الكحول»، وهو ما حدا بمسؤولي الملف الإنكليزي إلى تقديم شكوى رسمية ضد سوروكين. الشخصيات السياسة والاعتبارية التي توافدت على سويسرا ألهبت عدسات المصورين وحماسة الإعلاميين، وكانت هناك فنادق عدة محط أنظار وسائل الإعلام، فيما كانت أوراق اللعب ال22 مطلب الجميع، وكانت الاجتماعات معهم تسير على قدم وساق من كبار الشخصيات العالمية للتأكيد على ضمان «التصويت» أو لاستمالتهم من جهة إلى أخرى. وكان الوجود الإعلامي في فنادق محددة ومعروفة مطلباً ملحاً لمتابعة نشاطات الشخصيات المحورية، والتي كانت تجري بعض اللقاءات بشكل علني أمام الأنظار إلا أن اللقاءات الأهم والأبرز بالطبع كانت تتم كلها خلف الأبواب المغلقة بكل تأكيد. حمى التوقعات بدأت في التصاعد تدريجياً، كانت كل الأحاديث تدور حول 3 ملفات رئيسية هي قطر وأميركا وإسبانيا - البرتغال، وكان الملف الروسي من ضمن المرشحين إلا أن تصريح فلاديمير بوتين بأنه لن يحضر إلى سويسرا لعدم رغبته في التأثير في المقترعين مربكاً نوعاً ما، ففي حين اعتبره البعض مؤشراً على تراجع حظوظ الملف الروسي اعتبره آخرون مناورة «تكتيكية». يوم تقديم العروض كان الجميع ينتظر ما ستقدمه الملفات ال9 ولم يكن أحد يتوقع أن يكون هناك أمر مفاجئ، فالأمور كانت مرتبة منذ فترة طويلة والأصوات تعرف طريقها بشكل جيد ولن تكون «العروض» مؤثراً لتغيير وجهات النظر من اتجاه إلى آخر، لكنه كان «استعراضاً» إعلامياً وإضفاء «احتفالياً» من «الفيفا» على أجواء الاقتراع. كل العروض اعتمدت على التراوح بين عنصرين رئيسيين؛ الأول هو إقناع الحضور بأسلوب «منطقي» حول قدرة وإمكانات الملف على الاستضافة، والآخر هو استمالة «العواطف»، أما البعد الثالث لمعظم الملفات فكان الختام الدعائي على طريقة المنتجات التجارية». الملف القطري كان من العروض البارزة ولفت الأنظار إليه بأسلوبه المتقن وباعتماده على عنصري الجودة والمباغتة، إذ بدأ الملف بلغة مختلفة عن اللغة المتوقعة، فضلاً عن استخدامه لغات عدة من بينها الفرنسية والإسبانية والعربية والإنكليزية، إضافة إلى تقديمه كمشروع للمنطقة وليس لقطر وحدها وترحيبه بإسرائيل كدولة مشاركة في عام 2022، فضلاً عن حرصه على وجود شخصية عراقية تحدثت عن تجربة «عاطفية» في نهائيات كأس آسيا هي الشاب محمد التميمي الذي أكد أن كرة القدم وحدت العراقيين تحت شعار واحد وأنه يتمنى أن يتم ذلك على صعيد المنطقة، وأخيراً كان خطاب حرم أمير قطر موزة المسند مؤثراً، خصوصاً في سؤالها الأخير «متى» في إشارة إلى ماهية الوقت الذي سيقرر فيه الفيفا منح استضافة البطولة للمنطقة التي لم يسبق لها خوض هذه التجربة. أيضاً كان العرض الأميركي لافتاً باعتماده على مشاهير السياسة والسينما متكئاً على وجود الرئيس السابق للولايات المتحدة الأميركية بيل كلينتون ورسالة مسجلة من الرئيس الحالي باراك أوباما والممثل الشهير مورغان فريمان الحائز على جائزة الأوسكار، والذي أخطأ أثناء إلقاء خطابه المكتوب عندما تجاوز صفحة إلى صفحة أخرى لكنه انتبه سريعاً واعتذر قائلاً: «أعتذر تجاوزت صفحة» ثم أكمل خطابه، ولم يكن ذلك الخطأ الوحيد في العرض الأميركي، إذ إنه لم يلتزم بالوقت المحدد له متجاوزاً إياه ب7 دقائق. في المقابل كانت هناك عروض لم توفق في شكلها ومضمونها أبرزها العرض الكوري الجنوبي الذي لم يتمتع ب«جاذبية» عالية وكان من أقل العروض «تميزاً». الضغوط النفسية كانت عالية جداً على الجميع وكان المتنفس الوحيد للخروج من الحديث المتواصل طوال ال24 ساعة على جدل «الاقتراع» في أمرين؛ دورة الخليج وفوز عضو المكتب التنفيذي للفيفا المصري هاني أبو ريدة في انتخابات مجلس الشعب المصري بالنسبة للوفود العربية وفوز برشلونة على ريال مدريد بخمسة أهداف من دون رد بالنسبة لبقية الوفود. يومها سألت رئيس الاتحاد الآسيوي لكرة القدم القطري محمد بن همام عن توقعاته فأجاب باقتضاب: «الله كريم»، في حين كان علي المحشادي يقول بهدوء: «إنها مباراة وكل الاحتمالات واردة». أمام قاعة ميسي في عصر الأربعاء التقيت رئيس الاتحاد الروسي لكرة القدم المحاط بسيل من الإعلاميين والكاميرات التلفزيونية، فباغته بسؤال عن سبب قرار بوتين عدم الحضور إلى زيوريخ فهز كتفيه من دون أن يجيب، بينما أسر لي أحد الإعلاميين الروس قائلاً: «ربما البرودة شديدة هنا وهو لا يتحمل هذا النوع من الصقيع!»، مودعاً إياي بابتسامة ساخرة. في صبيحة يوم الخميس أرسل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤشراً جديداً لتغير المعطيات، فكلام المساء تمحوه أشعة «النهار» وما دبر ليلاً ربما غير كثيراً من الأمور، وذلك عندما أعلن عبر وكالة الأنباء الروسية أنه قرر زيارة زيوريخ في حال فوز بلاده ب«الاستضافة» لشكر «الفيفا» على منحهم هذا الشرف، وهو ما أعاد الحسابات «الروسية» إلى قائمة وسائل الإعلام من جديد. بعد تقديم العروض كانت كل وسائل الإعلام تقف على أهبة الاستعداد في قاعة ميسي وكان حشد من الكاميرات جاهزاً لالتقاط الصور، كان الحديث يدور بحرارة عن التوقعات وكان السؤال الرئيسي لكل ضيوف القنوات الفضائية ثابتاً: «ما توقعاتك؟»، الإجابة كانت تختلف من طرف إلى آخر لكن مع كل توقع كانت الأحاديث تراوح بين التلميح والتصريح من طرف إلى آخر إلى فساد «الفيفا»، وكان كل المتحدثين يسعون إلى ختام توقعاتهم بالقول إن كل الأمور متوقعة، في إشارة مبطنة إلى أن القضية لم تعد تعتمد على الإمكانات أو التحالفات أو القدرات بقدر اعتمادها على الضغوط السياسية والرشاوى وهي أمور من الممكن أن تغير كل شيء في اللحظات الأخيرة. كانت اللحظات حاسمة وكانت التسريبات تسير بشكل متتالٍ عن جولات التصويت وكان خروج الملف الإنكليزي باكراً من الحسابات وحصول الملف القطري على 10 أصوات في الجولة الأولى مثار حديث الجميع إلا أن الحديث كان يدور حول «تسريبات» وهو ما لم يمنح الحديث «نكهته» ولم يثر كثير من الجدل في انتظار النتيجة. عندما بدأ بلاتر في الحديث من على منصة المسرح كانت كل الأنفاس «محبوسة» وهو الرجل الخبير في هذه المواقف، فقام في المرة الأولى وكعادته بفتح «الظرف» بكل هدوء وسحب الورقة وإعادته بطريقته «السينمائية» قبل أن يعلن أن روسيا هي الدولة الفائزة بالتنظيم لتنطلق صرخات منسوبي الملف الروسي وتزداد دقات قلوب الملفات الآسيوية والملف الأميركي ليعيد بلاتر الحركة ذاتها في الجولة الثانية ويعلن بالطريقة «السينمائية» ذاتها فوز الملف القطري وسط فرحة عامرة غمرت كل الإعلاميين العرب الموجودين في سويسرا، والذين غادر بعضهم إلى خارج القاعة إما للحديث مع وسيلته الإعلامية وإما لإيصال بعض المعلومات الصحافية وفي الخارج كان منظر السكان العرب في زيوريخ ملفتاً بوجود علمين جزائري ومغربي كانا يرتفعان بالتلويح كلما خرج شخص عربي من القاعة. بعد إعلان النتائج استحوذ القطريون والروس على وسائل الإعلام كافة، وكانوا المطلب الأول فيما توارى مسؤولو بقية الملفات عن الأنظار، وفي المساء قابلت رئيس الاتحاد الأميركي لكرة القدم سونيل غلولاتي على غير الصورة التي عهدتها عنه كرجل مرح، وبدا وكأن هموم الدنيا كلها على «رأسه» سلمت عليه وحاولت أن أوجه له بعض التساؤلات لكنه رفض الرد وأجابني بأنه لا يريد الحديث الآن، قائلاً: «ليس لدي ما أقوله الآن»، ثم عاد ممسكاً بخيط «المرونة» المعهود عنه قائلاً: «بإمكانك الترتيب مع العلاقات العامة لدينا وربما التقينا لاحقاً». أما الإنكليز فقد عزفوا نشيد الخيانة والتشكيك حين أشار رئيس ملف ترشيح إنكلترا اندي انسون إلى أن في الأمر ما فيه من خفايا قائلاً: «أستراليا تملك ملفاً جيداً ولم تحصل إلا على صوت واحد، ونحن على اثنين وأميركا صاحبة ملف تقني قوي جداً، على ثلاثة في التصفية الأولى، أي أن الدول الثلاث مجتمعة حصلت على ست أصوات فقط، إن في الأمر شيئاً غير صحيح»، علماً أن عضو الملف النجم البارز ديفيد بيكهام صرح قبل 24 ساعة أن إنكلترا تثق في نزاهة أعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد الدولي لكرة القدم، لكن ربما التصريحات مثل الأصوات لا تصمد كثيراً وتتغير بوصلتها من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. وضعت حرب مونديالي 2018 و2022 أوزارها، وإذا كان هناك ملفان ابتهجا بلذة الانتصار فإن هناك ملفين لن ينسيا مرارة الخسارة والإذلال؛ إنكلترا لحصولها على صوتين فقط وأميركا لأنها خسرت أمام قطر الدولة ذات ال11 ألف وخمس مئة ألف كيلو متر فقط.