شكل المعرض الخاص الذي ضم في الآونة الأخيرة مجموعة وافية من أعمال الفنان التشكيلي أنطونيو برني في المتحف الوطني للفنون الجميلة في العاصمة الارجنتينية، فرصة للوقوف من جهة على نتاج هذا الفنان الذي يصنف كأحد أبرز الفنانين التشكيليين العالميين وأهمهم على مستوى الارجنتين وأميركا اللاتينية، ومن جهة أخرى، فرصة للاطلاع على فن التشكيل الارجنتيني الذي هو في معظم الاحيان ثمرة تزاوج جنسيتين. لا يمكننا في هذا السياق الا الاشارة الى ان هذا المتحف يعد الأهم في البلد وأحد أبرز متاحف أميركا اللاتينية، وتنقل منذ العام 1870 من مبنى الى آخر واستقر في العام 1933على ما هو عليه اليوم (مع اضافات وتعديلات مع مر السنين) بفضل مشروع المهندس اليخاندرو بوستيو، الذي راعى الجوانب الفنية للمتحف مخصصاً 34 صالة تضم معارض أعمال دائمة وموقتة محلية وعالمية، روائع لا تتكرر يمكن رؤيتها كمنحوتة قبلة لرودان وغيرها من الاعمال التي يبلغ عددها 12713 ما بين رسم ونحت وموجودات تراثية لا مجال لذكرها في سياقنا هذا لفنانين عالميين نذكر منهم: غوغان، فان غوغ، غويا، بيكاسو، ريمبريندت، كاندينسكي، ميرو، وفنانون أرجنتينوين خصص لهم حيز خاص يأتي في مقدمهم التشكيلي والشاعر البرتو غريكو كما أعمال أخرى لكارلوس النزو، كانديدو لوبيز، لوشيو فونتانا الخ... ناهيك عن مكتبة يصل عدد عناوينها الى حوالى 150000 مجلد فني. المعرض الذي كرس له الطابق الثاني من المتحف، يعكس حجم المشاركة الاستعادية التي أرادها منظموها للفنان أنطونيو برني (1981 - 1905) ، حوالى31عملاً (مجموعة خاصة) تعكس مختلف مراحل ابداعات برني، متيحة متعة التعرف الى نتاجه، الذي مر بأكثر من مرحلة أولها لوحات انطباعية عرضت في معرض وعمره لم يتجاوز الرابعة عشرة، هذا عندما كان لم يزل في روزاريو المدينة التي ولد فيها من أبوين ايطاليين، قدما آنذاك الى الارجنتين كحال كثير من المهاجرين، وبفضل منحة دراسية استطاع أكاديمياً متابعة فن الرسم في مدريد، مقرراً بعد فترة وجيزة أن المنبع الاسباني هو باريس، التي توجه اليها معاصراً فناني ومثقفي تلك الفترة، متاثراً بنظريات فرويد وبفن جورج دو كيريكو ورينيه ماغريت، واتسمت اعماله بداية بالتكعيبية لينفصل عنها نحو السريالية، ومن ثم بعد عودته في العام1930 الى الارجنتين انتحى درب المدرسة الواقعية، بعدما شعر بأن السابقة بعيدة من المعاناة الاجتماعية، وبخاصة انه عايش تلك المرحلة (نذكر فقط أنه عاصر الزمن البيروني منذ العام 1930ولغاية 1970) التي شهدت أحداثاً وانقلابات وحروباًَ، فاقداً والده في الحرب العالمية الاولى من دون أن يُعرف متى، كيف، وأين! وبدأت رحلة برني المتنوعة ويمكن القول إن الرسم كمهنة نهلها من أوروبا، بينما اعطته بلده القدرة على ترجمة رؤياه بأعمال أكثر نضوجاً وابداعاً مع نمو اكتشافاته، لفنان مشاكس اختار اليسار ايديولوجية. من خلال ما تركه برني، بوسع زائر معرضه الوقوع احياناً في الاشكالية السياسية، اذ يجبرك على الانخراط في هموم مواضيعه وأفكاره والتعاطف معها، انه بهذا المعنى ريشة مميزة قادرة بمباشرتها السليطة على الامساك بالانفاس، وبميتافيزيقيتها أو سرياليتها الطيران بك فوق غيمة او الالقاء بك على شاطئ؛ هذا ما تبثه اللوحات الجدارية، السمة الاساسية للمعرض. جداريات يصل بعضها الى580 × 800 سم ... تسمرك في المكان انفعالات المساحات، ألوانها التي تقارب الصخب من الشفافية، أشخاصها وأبطالها الذين كرس لهم ريشته كما غيره الكثير من الفنانين في تلك الفترة - على سبيل المثال لا الحصر كل من جدارية: «العاطلون عن العمل»، «المهاجرون» و «تظاهرة» ... جموع أجساد ووجوه بخوفها، أنينها، فقرها ونقمتها وغيرها مما يعكس المتغيرات الاجتماعية في الارجنتين، كما و» طيران الموت» الممثلة لديكتاتورية الحكم آنذاك نحو جدارية «مثال منتصف الليل في العالم» المهداة للحرب المدنية الاسبانية... انها وغيرها من أعمال القرن الماضي وتحديداً الثلاثينات والاربعينات، التي من خلالها عكس برني مرحلة خدمت افكاره وفلسفته الفنية والاجتماعية، وجعلت منه فناناً جدلياً محرضاً لا يعرف الحياد، غزيراً بديناميكية منفردة في عالمه ان لم يكن بالفعل كذلك، وايضاً فناناً كبيراً رائداً ومؤسساً للمدرسة الواقعية في بلاده كما جعلته جدارياته شاهداً على تاريخ وموثقة له، ولذا يقال فيه بأنه خير من رمز وأرشف تاريخاً. الواقعية قد تكون حمى ابداعات برني في فترة الغليان سواء الفني أو الحدثي، أما مرحلة الخمسينات والستينات فتميز شق كبير منها تحديداً بتحيزه الذي يبدو جلياً، لبطليه في السلسلة السردية التي تنبض العين والذاكرة في رؤيتها، وهي سلسلة لوحات نفذها برني في مرحلة الخمسينات والستينات لطفلين منحهما اسمي خوانيتو لاغونا ورامونا مونتيل، من الطبقة المعدمة الجميلة ببساطتها كما قدمها وأرادها الفنان، سواء بأفكار الاعمال هذه أو باسلوبها وألوانها الزاهية والتي تم تحقيقها بالكولاج مستخدماً مخلفات المدن، وفيها يواصل بحثه متعقباً من دون ملل الطفلين، حيهما، منزلهما المتواضع، الظروف التي يعيشان فيها... بشغف جميل فعلاً، نذكر منها: خوانيتو يتعلم القراءة، خوانيتو ينام، حريق في حي خوانيتو، طوفان، خوانيتو ورامونا يحتفلان بالميلاد...الخ. انها مرحلة السلم في شكل عام وان تضمنت صدمات، وفي السلم اتيح لبرني قبل أن ينطفئ الضوء الذي شكل لوحاته أن يرسم تجريداً «فريق كرة قدم حي شعبي» و «أوركسترا التانغو» ومع سلسلة أبطاله ولغاية الثمانينات أغلق آخر فصل من حياة فنان يعد من أبرز مفاتيح الفن التشكيلي في الارجنتين.