حرص عدد من سفراء لبنان خلال فترة حرب 1975 – 1989 على تقديم تقاريرهم شفهياً لوزير الخارجية أو لمساعده ممن حافظوا في حينه على مظاهر الشرعية. لذلك كانوا يقصدون بيروت كل أسبوعين تقريباً من أجل أداء هذا الواجب الديبلوماسي. والسبب – كما أعلنه أحدهم – أن بعض موظفي الخارجية استغل حال الفلتان والتسيب، لتسريب التقارير المكتوبة الى جهات أجنبية كانت تشتريها منه بالمال. ومن أجل تفادي التورط وكشف أسرار الدولة، آثر بعض الديبلوماسيين اللبنانيين تجشم عناء السفر لتفريغ أسرارهم أمام الوزير أو مساعده. وما فعله سفراء لبنان خلال تلك الفترة الحرجة يعتبر تحايلاً على ما فعله جوليان أسانج، صاحب الوثائق السرية ومؤسس موقع «ويكيليكس». وكان من الطبيعي أن تقابل عملية الكشف عن التقارير الديبلوماسية والوثائق السرية الأميركية بكثير من الغضب ودعوات الانتقام بحيث أن مرشحة الحزب الجمهوري للرئاسة سارة بيلين، طالبت القوات الخاصة بضرورة مطاردة أسانج واغتياله! وأكد مبعوث واشنطن الى أفغانستان وباكستان ريتشارد هولبروك، أن التقارير الديبلوماسية كثيراً ما تتعرض للغربلة والتنقية قبل حفظها في الأرشيف الرسمي. وروى كيف أن «اتفاق دايتون» للسلام الذي وقعه مع وزير خارجية ألمانيا عام 1996 وولفغانغ ايشنغر، قد حذفت منه كل النصوص المتعلقة بالخلافات. كما حذفت من الوثيقة النهائية أيضاً كل مواقف الاستفزاز التي جهر بها زعماء صربيا والبوسنة. ولكن جوليان أسانج لم يأبه لهذه التفاصيل الرسمية، وقام بعرض «طوفان» من الوثائق السرية عبر موقع «ويكيليكس»، الأمر الذي شوش على العمل الديبلوماسي وحطم قواعد الأصول المتبعة في النظام العالمي. وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون هددت بمعاقبة الجندي الأميركي برادلي مايننغ، واتهمته بالخيانة الوطنية. ومثل هذه التهمة – في حال ثبوتها – ستقوده الى السجن مدة 52 سنة لأنه استغل وظيفته الحساسة لتزويد موقع «ويكيليكس» ب 250 ألف وثيقة. وفي هذا السياق، طرحت الصحافة الأميركية سلسلة تساؤلات تتعلق بالأهداف السياسية التي يتوخاها هذا الجندي من وراء تسريب الوثائق الخطيرة؟ وقارن بعض المحللين دوره المريب بدور الجاسوس جوناثان بولارد الذي أعطى إسرائيل كمية مهمة من وثائق الاستخبارات العسكرية عام 1996. وقد دانته وزارة العدل الأميركية بالعقوبة القصوى، متهمة إياه بتعريض الأمن القومي لأضرار بالغة. وقد حاولت إسرائيل ممارسة ضغوط قوية في سبيل إطلاق سراحه، ولكنها باءت بالفشل لأن الاستخبارات الإسرائيلية باعت معلوماته الإلكترونية الى الصين. لهذا اعتبر الجرم الذي اقترفه من النوع المتعلق بخدمة العدو. ولكن المقارنة لا تنطبق على الجندي ماننغ بدليل أن وثائقه انتشرت في كل صحف العالم التي وجدت فيها تشهيراً علنياً بسياسة الولاياتالمتحدة في العراق واليمن وأفغانستان وكل مكان آخر. وهذا ما دفع عدداً من المعلقين الى الاستنتاج بأن النزعة الإصلاحية المعارضة هي التي جمعته بجوليان أسانج الذي تعتبره صحف السويد يسارياً متطرفاً يطمح الى إصلاح العالم من طريق الكشف عن عوراته. وهذا ما دفعهما الى نشر شريط فيديو لقصف جوي أميركي على مدنيين في العراق. والثابت أن هذا الشريط كان محرجاً للبيت الأبيض، لأنه في نظر الرئيسين أوباما وبوش عرّض حياة الكثيرين للخطر. جريدة «نيويورك بوست» الأميركية اتهمت وزير الدفاع روبرت غيتس بالقصور والإهمال لأن الشاب ماننغ كتب عبر موقعه على الانترنت عن مدى كراهيته للعسكر ولخدمة الجيش. وقد أطل مرات عدة على صفحة «فيسبوك» ليعبر عن استيائه من المؤسسة الحربية ومتفرعاتها. ولدى استرجاع نصوص تلك الكتابات، تبين للبنتاغون أن ماننغ أصيب بانهيار عصبي خلال شهر أيار (مايو) الماضي بسبب خلافه مع «صديقه». وهكذا ظهرت إشاعة شذوذه الجنسي، خصوصاً في وقت كان الكونغرس يبحث موضوع المثليين في الجيش. تماماً مثلما اتهمت حكومة السويد شريكه أسانج بمحاولة اغتصاب مساعدته. ويقول محاميه مارك ستيفنز، إن مذكرة الاعتقال صدرت عقب نشر 250 ألف وثيقة ديبلوماسية أميركية سرية. وفي تصوره أن المزاعم الجنسية الملفقة ليست أكثر من عملية ابتزاز وتخويف بهدف منع أسانج من استئناف نشر الوثائق. اتهم حسين جليك، نائب رئيس وزراء تركيا أردوغان، إسرائيل بالوقوف وراء تسريب آلاف الوثائق الأميركية. والدليل في نظره، أن الدولة العبرية لم تتأثر من عملية النشر. في حين دافع جوليان أسانج عن موقفه بالقول: «إن نتانياهو حض قادة العالم على ضرورة إبقاء التوازن بين ما يقولونه في العلن وما يتحدثون به في السر». واستغل مؤسس موقع «ويكيليكس» تصريح نتانياهو ليؤكد أن الوثائق ستساعد على دفع عملية السلام في الشرق الأوسط. كيف؟ دوري غولد، ممثل إسرائيل في الأممالمتحدة سابقاً، شرح هذا الموضوع بالتفصيل، مؤكداً أن الوثائق المسربة خدمت نظرية نتانياهو التي رجحت على نظرية أوباما. وروى أن اللقاء الأول الذي تم بين أوباما ونتانياهو، شهد خلافاً في الرأي حول أولويات السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط. وقد أصر أوباما على ضرورة تجميد البناء في المستوطنات لأن هذا العمل من قبل إسرائيل سيساعده على اتخاذ خط أكثر حزماً ضد إيران بحجة منع أحمدي نجاد من استخدام الورقة الفلسطينية. خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده بنيامين نتانياهو مطلع هذا الشهر، سخر وثائق «ويكيليكس» لدعم طروحاته السياسية، واعتمد على البرقيات السرية التي نقلت غضب بعض الدول العربية من مشروع القنبلة النووية الإيرانية، ليجدد رفضه حل القضية الفلسطينية باعتبارها تمثل مصدر المشاكل في المنطقة. واعترض على سياسة أوباما التي تقول إن الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني يمثل أكبر خطر على مستقبل الشرق الأوسط. وعلى الفور فتحت أبواق الصحف الإسرائيلية وسط حملة غير مسبوقة لتبني وجهة نظر نتانياهو المطالب بدعم برنامج «ويكيليكس» وكل ما ذكره من تجاهل القادة العرب للقضية الفلسطينية. وكانت صحيفة «هآرتس» في طليعة الصحف المؤيدة لهذا الطرح. وكتبت في افتتاحيتها تقول: «بعد أن فتح جوليان أسانج عيوننا على البريد الأميركي السري، انتفى كل احتمال لاستئناف المسيرة السياسية، وتوقيع اتفاق سلام إسرائيلي – فلسطيني، والسبب أن أبو مازن يعيش تحت ظل أحمدي نجاد وسيفه المصلت من طهران. إن إيران نووية ستدفن نهائياً فرص المصالحة بين العرب وإسرائيل». الصحافة العربية في غالبيتها، انتقدت منطق إسرائيل لأن المخاوف من إيران نووية لا تلغي مخاوف الدول العربية من الاحتلال الإسرائيلي واستئناف بناء المستوطنات بقوة السلاح. علماً بأن الاعتراض العربي على القنبلة الذرية الإيرانية ناتج من مخاطر التداعيات التي تحول المنطقة الى ترسانة نووية، الأمر الذي يضطر مصر والسعودية ودولة الإمارات وسواها الى الدخول في مرحلة السباق النووي. إضافة الى هذا المعطى، فان إسرائيل تعتبر في نظر جميع الدول العربية – بما فيها الموقعة على السلام مثل مصر والأردن – دولة عدوة مغتصبة للحقوق وللأرض وللسكان الأصليين. في حين تعتبر إيران دولة صديقة عقدت تحالفات عدة مع بعض الدول العربية. ومعنى هذا أن طموحها السياسي والنووي يشكل قلقاً في المنطقة، بينما تستدعي طموحات إسرائيل المتنامية حلاً نهائياً لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة. بقي سؤال آخر يتعلق بتوقيت صدور وثائق «ويكيليكس» وتزامن صدورها مع فشل المحادثات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. وهل هذا التوقيت يمثل صدفة بحتة، أم أن «فئران الايباك» في البنتاغون هم الذين أنقذوا نتانياهو من خلاف آخر مع أوباما؟ نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» مقالة كتبها تشاس فريمان، مساعد وزير الدفاع الأميركي السابق، يصف فيها جوليان أسانج بأنه نسخة جديدة عن الفوضويين الذين أفرزهم القرن الماضي. ذلك أنهم كانوا يطمحون الى زعزعة النظام العالمي، كما يتوخى مؤسس موقع «ويكيليكس». في حديثه الى مجلة «تايم» الأميركية، دافع أسانج عن موقعه بالقول: عندما تُعرف الحقائق نستطيع أن نجعل الحكام أكثر شفافية وصدقاً. وبهذا نضعهم أمام خيارين: هل يريدون أن يكونوا صادقين ونزيهين ويعلنوا لشعوبهم حقيقة أعمالهم. أم يريدون العيش دائماً في الظلام والسرية؟ يقول المؤرخون إن سياسة الانفتاح والحرية التي اعتمدها غورباتشيف هي التي فككت الاتحاد السوفياتي، لأنها كشفت عن قصور النظام في التعاطي مع انفجار مفاعل تشيرنوبل، ومع الأزمة الاقتصادية الخانقة. من هنا مقارنة سلاح حرية الصحافة الذي استخدمه جوليان أسانج لانتقاد النظام، خصوصاً أن الدستور الأميركي يحظر على الكونغرس القيام بأي تعديل يمس حرية الصحافة. ومن طريق هذه الحرية يقوم موقع «ويكيليكس» بتوزيع المعلومات المسروقة والوثائق السرية المسربة! * كاتب وصحافي لبناني