للمرة الأولى تقرر اليابان إرسال قوات - غير قتالية - إلى منطقة الجزر المتنازع عليها مع الصين كرد على المناورات البحرية الصينية في بحر الصين الشرقي وفقاً لما أعلنته جريدة «نيكي» اليابانية في 21 الشهر الماضي، وهي الخطوة التي تعيد إلى الواجهة حقيقة استمرار أسباب الخلاف واحتمالات تصعيد التوتر الياباني - الصيني مرة أخرى بعد ما شهدته تلك العلاقات من توتر على خلفية ما بات يعرف بحادث سفينة الصيد الصينية. ففي بداية شهر أيلول (سبتمبر) الماضي ألقت قوات خفر السواحل اليابانية القبض على سفينة صيد صينية وقامت باحتجاز قبطانها وبحارتها، ثم أفرجت عن البحارة واحتجزت القبطان حتى تم الإفراج عنه لاحقاً بعد تصعيد الموقف بين الطرفين. وتثير التطورات الحالية مرة أخرى التساؤل حول حقيقة الوضع في شرق آسيا، والعلاقات اليابانية - الصينية، كما أن التحركات الصينية والردود اليابانية تؤكد أن حادث السفينة يمكن أن يكون له تأثيرات أكثر عمقاً. فعلى رغم ما تبدو عليه العلاقات بين الدولتين من تعاون اقتصادي يكتسب قيمته من أهمية السوق الصيني للمنتج الياباني الذي يعاني من انكماش السوق المحلي، وحاجة الصين للتكنولوجيا اليابانية وغيرها من مظاهر التعاون في ملفات أقليمية مهمة، فإن التعامل مع الحدث وما سبقه من أحداث مشابهة يعد عامل كاشف عن وجود العديد من مصادر التوتر في العمق. والمشكلة الأساسية، وكما ظهر واضحاً من التعامل مع حادث السفينة، تتمثل في ارتباط تلك العوامل بالمفاهيم الكبرى في علم السياسة وتحديداً مفاهيم القومية والسيادة الوطنية وكرامة المواطن، وتحميلها في الحالة اليابانية - الصينية بالكثير من الذكريات التاريخية المؤلمة وفقدان الثقة والتشكك الذي يجعل التصعيد على اختلاف درجاته خياراً سهلاً وليس أخيراً. ويتضح التصعيد الصيني في الخطاب والسياسات المتبعة خلال تلك الفترة مقارنة بحوادث سابقة. فالصين التي عملت سابقاً على احتواء الأحداث المشابهة، مطالبة صياديها بتجنب مناطق النزاع استخدمت في هذا الحادث لغة فيها درجة أعلى من التهديد وطالبت اليابان بضرورة تحمل خطورة تصرفها، وحددت مطالبها في الأفراج عن القبطان ولكنها فور الأفراج عنه طالبت باعتذار ياباني رسمي ودفع تعويض عما حدث. وهو الأمر الذي ردت عليه اليابان بالرفض باعتبار أنها تقوم بتنفيذ القانون الياباني على أراضيها، معلنة انها ستعمل على طلب تكلفة إصلاح الأضرار التي لحقت بقارب خفر السواحل وكأنها محاولة للرد على الصين بنفس الطريقة. كما ظهر واضحاً تعامل الصين مع احتجاز القبطان والإفراج عنه ضمن سياق المفاهيم الكبرى، حيث تم تناوله باعتباره ليس مجرد حادث عارض ولكن كجزء من حقوق المواطن وسيادة الصين على أراضيها القومية. مع استقبال القبطان العائد بحضور عدد من المسؤولين الرسميين ووسائل الإعلام، وأبراز تصريحاته التي أكد فيها على حقه في الصيد في الجزر كونها أراضي صينية. وهو تناول لا يساعد داخلياً في التهدئة وأن كان يساعد في التوحد خلف القيادة السياسية لأنه يطرح الحدث للمواطن الصيني بوصفه قضية وطنية، تقوم بدورها بتحريك المشاعر القومية وتدفع لمزيد من التشدد في التعامل مع اليابان، وهو الأمر الذي بدأ واضحاً في تزايد عمليات الإبحار تجاه الجزر محل النزاع من قبل سفن صينية. بالمقابل اتبعت اليابان سياسة تهدئة واضحة فسعت للعودة لحالة ما قبل حادث السفينة متبنية مقاربة مفادها أن القضية داخلية وتتم معالجتها وفقا للقانون المحلي، وبناء عليه لا تحتاج إلى الحوار مع الصين. ولكن قياساً على التصعيد الصيني بدت تلك السياسات للبعض سياسات ضعيفة وهشة وربما تعبر عن بعض التنازل تجاه الصين. ومن الأمثلة على ذلك الجدل الذي شهدته اليابان حول عملية الإفراج عن القبطان من قبل المدعي العام في محافظة اوكيناوا. فبعد أن أكدت الحكومة مراراً أن الأمر يخضع للقانون الياباني، وأن ما حدث هو انتهاك واضح، تم الإفراج عن القبطان بقرار يمكن فهمه في إطار سياسي حيث أشار بيان المدعي العام عن الإفراج إلى ما تشهده العلاقات اليابانية - الصينية بسبب عملية الاحتجاز من توتر. وعلى رغم أن الحكومة اليابانية أكدت مرات عدة أنها لم تتدخل في اتخاذ القرار، وما أورده بيان المدعي العام من نفي العمدية عن تحرك القبطان وسفينته بما يبرر عملية الإفراج عنه، عاد وزير الخارجية الياباني سيجي مايهارا بعد الإحراج والتصعيد الصيني التالي لعملية الإفراج ليعلن عن وجود شريط فيديو من قبل خفر السواحل يؤكد تعمد الخرق من قبل السفينة، معلناً إمكانية نشر هذا الفيديو اذا اقتضت المصلحة القومية وهو ما كان يتوقع له أن يتسبب في حال حدوثه بإحراج الحكومة اليابانية وإثاره التساؤلات حول مبررات الإفراج عن القبطان. وبالفعل ومع نشر الشريط على الانترنت أثير الجدل حول القضية، وأعربت الصين عن استيائها، في حين سعت الحكومة اليابانية وكما هو متوقع في ظل النهج اليابانى القائم على تهدئة الوضع إلى نفي مسؤوليتها الرسمية عن نشر الشريط، في الوقت الذي سعت فيه للكشف عن ملابسات نشره وتأكيدها على ضرورة تشديد الإجراءات المتبعة في ما يتعلق بالبيانات السرية والمهمة. ولكن بعيداً من تلك التفاصيل المرتبطة بتطور العلاقات بين الطرفين، فإن القلق الياباني يتمحور فعلياً حول عاملين رئيسيين: الأول هو مستوى التصعيد وتوسيع مساحة رد الفعل الصيني الذي وصفته التحليلات اليابانية بغير المبرر بخاصة مع وقف الصين لكافة اللقاءات وغيرها من الأمور التي أعلنت بشكل سريع عقب الحادث. يضاف القلق المرتبط بالوضع الاقتصادي بشكل مباشر بخاصة في ظل اعتماد اليابان الكبير في صناعتها التكنولوجية المتقدمة على العناصر الأرضية النادرة والتي تبلغ صادرات الصين منها ما بين80 - 90 في المئة من الصادرات العالمية، وتعد اليابان أكبر مستورد من الصين حيث بلغت قيمة واردات اليابان منها خلال الشهور التسعة الأولى من العام الحالي 50 في المئة تقريباً من إجمالي الصادرات الصينية. هذه العناصر التي تمثل جزءاً أساسياً من القلق اليابانى ترتبط بدورها بملفات أخرى يمكن أن تترك انعكاساتها على أوضاع تتجاوز العلاقات الثنائية كما أشرنا سابقاً، وهو ما يعني ضرورة فهم التغير الذي يحيط بالمشهد الحالي وأطرافه. فالمشهد وفقاً لأدبيات الصراع الدولي يعبر عن حالة من حالات النزاعات المؤجلة الذي تختار أطرافه الإبقاء على "الوضع القائم" بوصفه الخيار الأفضل. ووفقاً لهذا التقسيم فإن اليابان هي الطرف الراغب في استمرار الوضع الراهن في ظل سيطرتها الفعلية على الأرض، وعدم وجود مكاسب حدودية يمكن أن تتحقق لها من خلال المفاوضات. في حين تعبر الصين عن ما يسمى بالطرف الثوري المطالب بالتغيير للحصول على بعض المكاسب. وإذا كان هذا هو حال "النزاع" بين الطرفين منذ السبعينات فإن السؤال المطروح هو ما الذي تغير وما الذي يدفع الصين إلى استخدام خطاب تصعيد قد يكون المستهدف منه الجلوس في سابقة أولى مع اليابان لمناقشة وضع الجزر وكأنها تسعى لتغيير موقف ياباني ثابت تجاهها. وهنا تتعدد التفسيرات وأن كان بعضها يركز على تنامى القوة الصينية الاقتصادية والعسكرية بخاصة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها كل الأطراف، وتدشين مكانتها ليس فقط الإقليمية ولكن الدولية، وإعادة تعريف تلك المكانة. فأن تحليلات أخرى تركز على التطورات التي شهدتها اليابان على صعيد السياسة الداخلية، وتربط تلك التفسيرات بين تصعيد الصين لخطابها تجاه الإقليم ومحاولة فرض سيطرتها كقوة بحرية، وبين تلك التطورات المتمثلة بشكل محدد في الانتخابات البرلمانية التي شهدتها اليابان عام 2009 وما أسفرت عنه من تغيير للحزب الحاكم. وهو التغيير الذي ألقى بظلاله على العلاقات اليابانية - الأميركية بعد أن وضع الحزب الحاكم على أجندته الانتخابية وعده بضرورة نقل القاعدة البحرية العسكرية الأميركية من أوكيناوا وما أدت إليه من أزمة مع الولاياتالمتحدة واستقالة رئيس الوزراء يوكيو هاتوياما بعد أشهر عدة من توليه رئاسة الحكومة. هذه التطورات يرى البعض أنها أعطت رسالة للصين بإمكانية تغيير الأوضاع أو على الأقل الدخول على المشهد الياباني - الأميركي. وبالطبع فأن الولاياتالمتحدة ليست بعيدة اليوم كما لم تكن من قبل عن المشهد القائم، مع فارق أساسي وهو أن حادث سفينة الصيد مثل عامل إيجابي للعلاقات الأميركية - اليابانية لأنه إعاد التأكيد على أهمية الوجود الأميركي في اليابان في ظل استمرار مصادر التهديد، وعلى أهمية هذا الوجود للاستقرار الإقليمي. كما ساهم في إعادة الأضواء للاتفاقية الأمنية بين البلدين التي تعرضت في اليابان للكثير من الانتقادات والتساؤلات حولها وحول أهميتها خلال عام كامل. وجاء تكرار الإشارة خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة على أن الاتفاقية تشمل الجزر كونها تحت الإدارة اليابانية بمثابة عامل مهدئ وانجاز سياسى على رغم تكرار الموقف الأميركي في كل أزمة مماثلة. وفي شكل عام وبعيداً من تلك المساحة المحيطة بالجزر محل النزاع يبقى السؤال الذي يسعى الكثير من المحللين للإجابة عنه، إلى أين تتجه الصين؟ وفي حين ينتصر البعض للأثر الإيجابي للنمو الاقتصادي وإمكانية أن تشهد الصين تحولاً سلمياً - ديموقراطياً، وعلاقات ودية مع جوارها كما حدث في الحالة اليابانية. تؤكد أصوات أخرى على أن حوادث من نوعية حادث سفينة الصيد لا ترجح التحول السلمي وتبرر الشك والترقب لما ستقوم به الصين. وعلى صعيد الحزب الياباني الحاكم ظهرت ملامح لوجهتي النظر، فمن جانب اتبعت الحكومة رسمياً خطوات للتهدئة شملت تغيير جدول رئيس الوزراء ناوتو كان وجدول أعمال الجلسة الاستثنائية لمجلسي البرلمان لتمكين كان من المشاركة في القمة الأوروبية - الآسيوية والتي عقدت في بروكسل في شهر تشرين الأول (اكتوبر) الماضي بهدف مقابلة الرئيس الصيني وشرح الموقف الياباني على رغم أن مشاركة رئيس الوزراء لم تكن مطروحة، وهو تحرك يعبر عن أهمية إنهاء حالة الأزمة الراهنة في العلاقات كما يحمل رؤية لأمكانية تحول صيني سلمي وايجابي للعلاقات التعاونية مع اليابان ودول الجوار الآسيوي. ولكن من جانب آخر طرحت تصريحات وزير الخارجية الأسبق والسكرتير العام الحالي للحزب الحاكم كاتسويا اوكادا رؤية مختلفة حين أكد أن غياب الديموقراطية يعد تفسيراً واضحاً للسلوك الصيني، بما يشير للتشكك النابع من طبيعة النظام الصيني القائم، والذي عبر عنه البعض بضرورة انتظار اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني والنظر في السياسات الصينية تجاه اليابان. ومع تعقد العلاقات ووجود العديد من أسباب التوتر في المياه العميقة التي تتجاوز حدود سفينة الصيد، والتي ما زالت انعكاساتها قائمة، يصبح من الضروري التعامل مع الأسباب التي تظهر من وقت لآخر بمثابة جزء من جبل الثلج الذي يظهر على السطح أحياناً. * باحثة مصرية