صدر في سلسلة «مراصد» عن وحدة الدراسات المستقبلية في مكتبة الإسكندرية كتاب «التيار الإسلامي في سورية» للباحث توماس بيريه؛ الأستاذ المحاضر في الإسلام المعاصر في جامعة أدنبرة. رأى فيه أن التيار الإسلامي في سورية يمثل شكلاً مختلفاً عن «النموذج المصري»، «فحملة القمع الدامية التي تعرض لها هذا التيار خلال انتفاضة عامي 1979 و1982 والتي كادت تقترب من تكرار نموذج الثورة الإيرانية، كانت أحدثت ثقلاً مقابلاً عبر حركة اجتماعية قوية أدت إلى ازدياد واضح لمظاهر التدين في الحياة اليومية السورية. فمع حلول سني التسعينات كانت المساجد امتلأت بالمصلين، وأصبح الحجاب، وللمرة الأولى في تاريخ سورية، منتشراً لدى النساء. كما انتشرت مدارس تعليم القرآن الكريم، وازداد عدد العائلات التي تفضل تنظيم حفلات القرآن «الإسلامية» (حيث يتم فيها الفصل بين الجنسين). بل إن النظام البعثي استجاب للحركة الاجتماعية في سياق هذه العملية منذ اللحظة التي تخلى فيها تدريجياً عن مواقفه العلمانية مبدياً تسامحاً أكبر تجاه الأنشطة الدينية غير السياسية. ويبدي التيار الإسلامي السوري، كما هي الحال في مصر، مظهراً محافظاً؛ فيعارض بشدة أي تجديد فكري. وقد تبدو سورية حالة استثنائية نسبياً؛ نظراً للالتزام طويل الأمد للإخوان المسلمين السوريين بمواقف تميل إلى شكل ما من الليبرالية السياسية. وعلى رغم ذلك، تعرض التنظيم للاجتثاث تماماً خلال انتفاضة الثمانينات، وهو الآن مجرد شبكة تتكون من بضع عشرات من الناشطين الكهول الذين يعيشون في المنفى بين أوروبا الغربية والشرق الأوسط. عرض توماس بيريه لعدد من وجوه التجديد الديني في سورية، للوقوف عند الإشارات - الضئيلة - لما يمكن اعتباره منعطفاً ما بعد إسلامي مفترضاً في سورية خلال أوائل القرن الواحد والعشرين. بالعكس من ذلك فإن ما تقوم عليه هذه الدراسة هو التأكيد على فكرة أن التركيز على تطورات الساحة الدينية المحلية، يمكنه أن يطرح مشكلتين تحليليتين رئيسيتين؛ أولاً: الإغراء المرتبط بالتبسيط الكبير الذي يطاول المظهر الأيديولوجي العام للإسلاميين «الأوائل» (في قضايا مثل الديموقراطية وحقوق الإنسان أو الموقف من الأقليات غير المسلمة)، وغرضه عرض تباينه مع التطورات التي يتبناها ما بعد الإسلاميين. ثانياً: وجود اتجاه نحو تصور وصف ل «الإسلاميين» - أي هؤلاء الذين ينشدون إقامة الدولة الإسلامية – كما لو كانوا يشكلون كلاً متجانساً؛ ذلك أن تحولاً نمطياً لا يمكنه الحدوث إلا داخل تيار يتميز بالتماسك (بحيث يتم استبعاد العوامل الهامشية). وهذا التحدي لا يقتصر فقط على مفاهيم ما بعد الإسلام السياسي التي صكها أصف بايات، ولكنها نتيجة محتملة لكل المحاولات التي استهدفت تعريف تحولات نمطية في التغيرات التي تطاول الإسلام السياسي حالياً. يصر توماس على أنه ليس بصدد رفض المفاهيم المختلفة لظاهرة ما بعد الإسلام السياسي التي ساعدت على فهم العديد من الاتجاهات المهمة، كما أنه لا ينفي أيضاً فكرة أن هناك تحولاً نمطياً طاول الإسلام السياسي في تركيا، أو أن تحولاً مماثلاً تم إجهاضه في إيران (موقتاً، ربما)؛ بسبب المعارضة العنيدة التي أبداها التيار المحافظ هناك. ما أراد توضيحه هنا - على الأقل في ما يتعلق بدراسة الحالة التي يطرحها - هو أن الإصرار على فكرة حدوث تحول نمطي أو غيابه في الإسلام السياسي يمكنه أن يؤدي إلى ابتسار للواقع بغرض جعله يتوافق مع سرديات متخيلة مسبقاً. تتناول الدراسة المشاكل التحليلية المذكورة أعلاه؛ بحيث أن قبول الإخوان المسلمين السوريين بمثل هذه الأفكار ال «ما بعد إسلامية»، على نحو النظام البرلماني والتعددية السياسية والمواطنة الكاملة لغير المسلمين، ليست نتاجاً لتحول حديث، ولكنها تمثل ميزة طويلة الأمد تعود إلى السنوات الأولى من عمر الحركة. النقد الثاني الذي طرحه بشأن الاقترابات التي تناولت «التحول النمطي» يتعلق بالتأكيد على المخاطر التي يمكن أن تترتب على مسألة افتراض تجانس مفرط لظاهرة الإسلام السياسي. وهو يتعامل مع الإسلام السياسي بوصفه ظاهرة غير متجانسة، فإنه لا يحيل إلى التصنيف المتعارف عليه والذي يميز بين إسلاميين «معتدلين» وآخرين «متشددين،» بل إنه يلفت إلى ما يبدو لي عاملاً بنيوياً للتنوع الداخلي وقصد به الممارسة الاجتماعية اليومية. فالغالبية الكبرى من الفاعلين الإسلاميين والذين يسميهم «العلماء» يختصون في مجال الدعوة إلى سبل النجاة (وهو ما يحيل إليه الدين في المقام الأول، أي قيادة المؤمنين إلى طريق الجنة وتزويدهم بوسائل بلوغها). بينما يكون الآخرون خبراء في العمل السياسي (أي الصراع لأجل ممارسة أو اقتسام احتكار مشروع للعنف)؛ وإذا ما استعرنا مصطلحات بيار بورديو عوضاً عن تلك الخاصة بماكس فيبر، فإن الصنف الأول ينتمي ابتداءً إلى الحقل الديني، فيما يكون الثاني جزءاً من الحقل السياسي. وشرح في المحور الثاني من هذه الدراسة هذين الصنفين من الفاعلين: هم «إسلاميون» بالمعنى الذي يحيل إلى اعتبار أنهم يدعمون هدف إقامة نظام إسلامي، بينما يؤدي اختلاف وظائفهما بالضرورة إلى تباين في سلوكهما السياسي وينتهي إلى الاختلاف في مواقفهما التي تتعارض في غالب الأحيان من حول القضايا المتعلقة بمسألة الإصلاح السياسي. وانطلاقاً من الافتراض الذي قدمه في المحور الثاني من الدراسة والذي يعتبر أن العلماء يشكلون القوّة المحافِظة داخل التيار الإسلامي في سورية، فإن المحور الثالث سيظهر كيف أن النظام السُّلطوي البعثي بطبيعته العلمانية - وإن كان بمعايير مناطقية -حدد رؤيته في مسألة التجديد الديني. فالنظام، في الواقع، يفضل التعامل مع علماء محافظين، بينما يعوق نمو اتجاهات إصلاحية قد تتأتّى من شخصيات سياسية. على هذا النحو يرى توماس أن الإصلاح السياسي هو شرط مسبق للإصلاح الديني وليس العكس. ويرى توماس أننا لا يمكننا أن نغفل، حين النظر إلى فكرة حدوث تحول ما بعد إسلاموي في خطاب الإخوان المسلمين السوريين، أن هذا الخطاب لم يتغير جذرياً منذ تأسيس الحركة في الأربعينات؛ ليس لأن الإسلاميين السوريين احتفظوا بمرونة الإسلاميين «الأوائل»؛ بل لأنهم تميزوا دوماً بقبولهم الخصائص الأساسية للدولة الليبرالية الحديثة على نحو الانتخابات الحرة والتعددية وتمتع غير المسلمين بحقوق المواطنة. فالمرونة السياسية لدى الإخوان المسلمين السوريين كانت نتاج تنشئتهم المبكرة ضمن النظام الديموقراطي؛ فَكمحترفين سياسيين كان عليهم التعامل مع المطالب الديموقراطية على نحو جذب الناخبين المحتملين وتكوين تحالفات مع أحزاب علمانية التوجه. علاوة على ذلك وبسبب التأثير الذي كانت تمارسه الأحزاب العلمانية على الجيش، فإن الإخوان كانوا مقتنعين أنهم سيخسرون كل شيء إذا ما استُبدل النظام البرلماني بديكتاتورية عسكرية. إن النظر إلى التيار الإسلامي السوري من زاوية حدوث تحول ما بعد إسلاموي يمكنه أيضاً أن يؤدي إلى المغالاة في تأكيد تماسك هذا التيار واعتباره كتلة متجانسة، في حين يتم تجاهل الاختلافات البنيوية الداخلية. في الحقيقة، وعلى خلاف الإخوان، فإن العلماء الذين شكلوا الجزء الأهم في حركة الأسلمة الاجتماعية السورية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، أظهروا اتجاهاً محافظاً وجموداً دينياً لا يفتر. السبب في ذلك هو أنهم علماء وليسوا نشطاء سياسيين، ما يعني أنه لم يكن عليهم أن يذعنوا لمطالب اللعبة السياسية، وكان باستطاعتهم التمسك في شكل صارم بمبادئهم المذهبية. لقد ركز الإخوان المسلمون، تحت حكم النظام التسلطي البعثي، على الصراع من أجل «حقهم» في العودة إلى الساحة السياسية، أي، تحدي نموذج الحزب الواحد. عمل علماء الدين عموماً، من جهتهم، لأجل تعزيز مكانتهم داخل النظام القائم، باستثناء الظروف الاستثنائية عندما أصبح هذا النظام معادياً للدين في شكل علني على نحو عهد البعث الجديد في الستينات، أو عندما اجتاحته أزمة كبرى على نحو أزمات 1979 - 1982 و2011. لقد تمتع العلماء الذين يعتبرهم النظام أقل تهديداً من النشطاء السياسيين دوماً بمعاملة أكثر تساهلاً على رغم رفضهم التام للأيديولوجية البعثية. ما سبق يُضفي صدقية أكثر على فكرة أن التحول الديموقراطي في السياق السوري هو شرط للإصلاح السياسي وليس العكس. إذا كان العلماء يمثلون عائقاً أمام التغيير السياسي، فذلك ليس بسبب أيديولوجيتهم - على رغم أنهم بالتأكيد لم يكونوا ليصفوا أنفسهم ك «ديموقراطيين»، مع أنهم يساندون فكرة وجود حكومة منتخبة، بقدر ما أن يكون سبب ذلك هو مكانتهم كنخبة قطاعية، ما يجعلهم يترددون في تحدي سلطة الدولة. وطالما أن ما يمنع العلماء من الدفع بمطالب الإصلاح السياسي لا يكمن في أيديولوجيتهم بل في طبيعتهم القطاعية، فإن هناك أسباباً أقل للاعتقاد، وهي أن انتشار أفكار ما بعد الإسلام السياسي بين العلماء قد يؤدي إلى تغيير معتبر في رأي توماس. على العكس من ذلك، يمكن أن يدعم الانتقال نحو الديموقراطية، على منوال ما يحدث في تركيا، ظهور أصوات إصلاحية من خلال إضعاف العلماء الذين قد تتعرض هيمنتهم على المجال الديني للتحدي من طرف نشطاء يستمدون شرعيتهم من نجاحاتهم السياسية. خلاصة القول: إن ما يجعل الإسلام ديموقراطياً في سورية ليس نجاح «ما بعد الإسلاميين» في مقابل «الحرس القديم» من الإسلاميين، بل يكمن في توفر السياق الذي يسمح بالانتشار لنشطاء سياسيين ذوي منحى حقوقي في مقابل العلماء الذين يركزون على مبدأ الواجبات. * كاتب مصري