على مدى أربعة ايام من اندلاع الحريق في جبال الكرمل في حيفا لم يظهر وزير الدفاع ايهود باراك ورئيس اركان الجيش غابي اشكنازي الا مرة واحدة. دخلا الى مركز الطوارئ الذي اقيم في أعلى قمة في حيفا. استمعا مع مجموعة من الحضور الى تقارير من الشرطة والإطفاء والطوارئ حول التطورات، ثم أطلقا تصريحات قصيرة واختفيا كالبرق. ولمن يريد أن يعرف كم كان اشكنازي مطلعاً على الأوضاع، كان يكفي الانتباه الى تصريحه في اليوم التالي للحريق، عندما قال انه سيخمد خلال ساعات. بينما أصغر الصحافيين قال إنه يحتاج الى يومين اضافيين على الأقل. وبالفعل، ففي صبيحة يوم الأحد أعلن عن إخماد الحريق نهائياً. باراك وأشكنازي اللذان «تألقا» خلال السنة الأخيرة في حملة الترويج لقدرات اسرائيل لمواجهة مختلف السيناريوات المتوقعة للحرب، وجدا نفسيهما أمام حقيقة مغايرة. وهما كبقية القيادات السياسية والعسكرية غير قادرين على إخفاء الحقيقة. صورة العجز باتت واضحة أمام الجميع. وعلى رغم اجتهاد الكثير من المسؤولين في القول ان الحرائق لا تعني ان اسرائيل فقدت قدرتها على حماية سكانها، فإن الاسرائيليين كمواطنين وخبراء ومحللين ومسؤولين سابقين، أجمعوا على ان اسرائيل غير قادرة على حماية الجبهة الداخلية من حرائق كبيرة كهذه وربما من ضربات أخرى. وان كل ما روج له خلال السنتين الأخيرتين عبر التدريبات التي أجرتها الجبهة الداخلية لفحص جاهزيتها لحماية السكان كانت عبارة عن حملة ترويج دعائية أكثر من أي شيء آخر. ورأى مسؤولون امنيون سابقون ان الكارثة دلت على «أن اليد التي أشعلت غابات الكرمل وسلطات الدولة التي أهملت أمن المواطنين، لم يتسببا في موت عشرات الإسرائيليين وضياع بيوت العشرات فحسب، بل أحرقت طبقة اخرى من الأسطورة القائلة ان دولة اليهود قوة عظمى. وأكدت التقارير الإسرائيلية ان المعضلة اليوم لا تقتصر على الحرائق وعجز اسرائيل عن مواجهة حال طوارئ خطيرة تنشب فيها حرائق، انما الخطر يكمن في وقوع حرب تتعرض فيها اسرائيل لقصف صاروخي يصيب مصانع كيماوية وحساسة. وعندها لا مجال للطائرة الأميركية العملاقة في الوصول الى اسرائيل ولا حتى للطائرات التي وصلت من دول عدة وساهمت في إخماد ألسنة النيران. فقصور الكفاءآت الإسرائيلية لا ينحصر في جانب الحرائق، والتقرير الذي قدمه مراقب الدولة يظهر جوانب أخرى من إخفاقات المسؤولين الإسرائيليين وقصورهم ويحسم ان وضع اسرائيل خطير، وان الحكومات السابقة لم تتعلم الدرس من نتائج حرب تموز. ويحذر من ان هناك خطر انهيار شامل لشبكة الدفاع المدني في أول امتحان حربي مقبل. وعلى رغم ما حمله التقرير من معطيات خطيرة، الا انه لم يكن مفاجئاً للاسرائيليين. فحرائق الكرمل اثارت ضجة وانتقادات واسعة تعيد الى الذاكرة الأجواء التي عاشتها اسرائيل بعد حرب لبنان الثانية التي كشفت، آنذاك، إخفاقات خطيرة في مختلف جوانب اداء الدفاع المدني. وفي المقابل ساهم ذلك في ارتفاع حدة القلق لدى الإسرائيليين من نتائج الحرب المقبلة التي يروج لها الإسرائيليون منذ فترة طويلة. وقد عبر 43 في المئة من الإسرائيليين في استطلاع رأي أجراه موقع «واللا» عن ان ما تكشف من اخفاقات في جاهزية الجبهة الداخلية خلال حرائق الكرمل زاد قلقهم وخوفهم من نتائج الحرب المحتملة، بخاصة على ايران. وعلى رغم الحقيقة التي لا يمكن دحضها وما تكشف عن عجز اسرائيلي، لم ينقطع القادة السياسيون والعسكريون في اسرائيل عن تكرار الحديث عن الاستعداد للحرب، وبعد يوم من اخماد حرائق الكرمل راحوا يحذرون من خطة يعدها حزب الله للسيطرة على لبنان فور نشر تقرير المحكمة الدولية بخصوص اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري. ويشيرون الى احتمال اقحام اسرائيل في هذه المعركة. وحذروا في الوقت نفسه من نقل مزيد من الصواريخ من سورية الى لبنان. وراح نائب رئيس دائرة البحوث في شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الاسرائيلي، يوسي ادلر، يرسم الصورة التي تتوقعها اسرائيل بعد نشر التقرير: «سيوقع حزب الله عشرات القتلى، وسيعمل بكل قوته للسيطرة على مؤسسات الدولة في لبنان. وفي وضع كهذا، تبدو امكانية ان يزحف التوتر باتجاه اسرائيل واردة. فعلى رغم مرور اربع سنوات على الحرب الثانية على لبنان 2006، الا ان حساب حزب الله مع اسرائيل ما زال مفتوحاً، بخاصة بعد اغتيال عماد مغنية. قبل ايام قليلة على اندلاع حرائق جبل الكرمل، كان رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية في الجيش الاسرائيلي، عاموس يدلين، يحذر خلال حفل تسلمه مهامه، من خطر اكبر ينتظر اسرائيل في حال وقوع حرب. وطرح يدلين معطيات خطيرة دفعت بإسرائيليين كثر الى الاستخلاص بأن الاستعداد لتهديد الصواريخ والقذائف الصاروخية بواسطة النظم الدفاعية القائمة، ليس ناجعاً. وبحسب الخبير في الشؤون العسكرية رؤوفين بدهتسور فإن «السياسة التي يمارسها الجيش خاطئة ولن تفضي الى حل مشكلة التهديد. وعلى الجيش الاسرائيلي أن يصوغ سياسة مختلفة وأن يتخلى عن النفقات الضخمة على النظم التي تُوجِد وهْم جبهة داخلية محمية». وأشار يدلين الى انه في حرب لبنان الثانية، أُطلق على الجبهة الإسرائيلية الداخلية اكثر من اربعة آلاف قذيفة صاروخية من لبنان، وفي «الرصاص المصبوب» أطلق الفلسطينيون نحو 600 قذيفة صاروخية على أهداف في اسرائيل. اضاف، أنه «يوجد اليوم نحو 1500 صاروخ وقذيفة صاروخية تهدد تل ابيب من لبنان وسورية وايرانوغزة. وتوجه آلاف القذائف الصاروخية والصواريخ الاخرى الى أهداف كثيرة اخرى». وفي موازاة هذا الاستنتاج، قال تقرير اسرائيلي نقله رؤوفين بدهستور في صحيفة «هآرتس» ان لدى حزب الله أكثر من 50 ألف قذيفة صاروخية من انواع عدة، وفيها 110 صواريخ من طراز «سكاد - دي»، التي يبلغ مداها تل أبيب وأهدافاً في النقب أيضاً. ولدى حماس آلاف القذائف الصاروخية، مدى بعضها عشرات الكيلومترات، وعند سورية آلاف الصواريخ البالستية وعشرات آلاف القذائف الصاروخية. والمقلق، بحسب يدلين ورؤوفين، ان اسرائيل غير جاهزة لمواجهة هذا الوضع، والخطر الأكبر سيتأتي من الحرائق المتوقع اندلاعها إثر القصف. وهذا ساهم في رفع حدة الانتقادات لمتخذي القرارات، من جهة، ولباراك واشكنازي، الرائدين في الإشراف على التدريبات العسكرية والترويج لقدرة الجيش الإسرائيلي واللذين قالا «لن نقبل أن تحسم الحرب القادمة من دون انتصار اسرائيلي واضح» من جهة أخرى. فقد انكشفت الصورة الحقيقة امام الاسرائيليين في اعقاب حرائق الكرمل وتقرير مراقب الدولة يؤكد ذلك ويشير الى ان اسرائيل تنفق بلايين الدولارات على تطوير نُظم حماية لن تجدي نفعاً في ساعة الامتحان. وفي انتقاداتهم القيادة، رأى مسؤولون سابقون في مؤسسات الدفاع المدني ان القيادة الحالية تتهرب من سيناريو يشكل جزءاً من التهديد الذي تستعد له كل محافل الامن في اسرائيل: سيناريو ستتعرض فيه اسرائيل في المواجهة المقبلة لقصف صاروخي على مناطق مأهولة تؤدي الى إصابة أحياء وبيوت وأبنية شاهقة وهذه كلها ستنهار أو تشتعل فيها النيران. وبحسب تقارير ل: «لقيادة الجبهة الداخلية توجد وحدات مختصة للإنقاذ والنجدة من داخل الحطام. وهي تعرف ايضاً كيف تطهر المنطقة من مواد القتال الكيماوية». وتضيف التقارير ان «لقيادة الجبهة الداخلية وحدات طبية جيدة. نجمة داود الحمراء (الاسعاف الاسرائيلي)، هي منظمة مهنية جداً. والشرطة ستسيطر على الوضع بنجاعة. ولكن كل القوات الممتازة هذه ستقف عاجزة امام منطقة مشتعلة وستنتظر الى أن يحدث رجال الاطفاء المعجزات مع معدات قديمة بكميات لا تكفي ومع حجم هزيل من القوى البشرية». وتساءل خبراء ومسؤولون سابقون في سياق تعليقاتهم على حرائق الكرمل: «اذا نشبت النار في بؤر عدة، وفي حاويات الوقود في المطارات او في المناطق الصناعية الكثيرة المواد الكيماوية التي ستشتعل، لا يمكن أي وحدة طبية او وحدة بحث ونجدة أن تقتحم النار من دون أن تعالج هذه مسبقاً. واذا كانت هناك بؤرة اشكالية واحدة، فقد نجونا. ولكن اذا كانت عشر بؤر او اكثر، بما في ذلك حرائق غابات تهدد بحرق البلدات – كل وحدات النجدة ستكتفي بالصلوات». هذا هو القصور الحقيقي الذي كشف عنه الحريق في الكرمل. ووضع أوري مسغاف احتمال سيناريو حرب صاروخية وقال: «من المخيف أن نفكر ماذا كان سيحصل هنا في حالة هجوم صاروخي شامل. في الحرائق السابقة درجوا على تهدئة الجمهور. حين سقطت الصواريخ «في الاراضي المفتوحة»، في أعقاب فشل مساعي الإطفاء في جبال الكرمل قد تواجه اسرائيل تكتيكاً ناجعاً لإخضاعها. وبموجبه يتم إمطار الأراضي المشجرة بالرؤوس المتفجرة. وبمثل هذه الحالة سنغرق في لجة التهديد الايراني وفي منظومة «حزب الله» الصاروخية اكثر بكثير مما في تحسين خدمات الإطفاء». ويضيف اوري مسغاف ان المصيبة الوطنية الحقيقية التي ألمت بإسرائيل لا تكمن في الحرائق في جبل الكرمل، انما في فقدان قدرة الحرص على المواطنين. ويقول: «هذه دولة في نصف القرن الماضي اعتبرت بين أمم العالم معجزة مدنية واقتصادية، وقدوة مبادرة وزخم. لكن اسرائيل العقود الأخيرة هي كيان وطني عاجز. دولة تجفّ، لم توجد بعد لنفسها آلية تحلية لمياه البحر. دولة لا تنجح في الحفاظ على إحدى عجائب الدنيا، ألا وهي البحر الميت. دولة لا تنجح في أن تقيم قطاراً سفلياً في تل أبيب وقطاراً سريعا إلى القدس. دولة تفشل في نقل 8500 مستوطن من غوش قطيف (مستوطنات قطاع غزة) الى نطاقها، وتجد صعوبة في السماح لبضعة آلاف من الناجين من الكارثة (المحرقة النازية) في أن يشيخوا بكرامة. فقط لجان تحقيق لفحص القصور تقوم هنا بوتيرة مثيرة للدوار؛ ولجنة الكرمل هي الاخرى باتت على الطريق. ويرى الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، غيورا ايلاند، ان ما تكشف من قصور في الجبهة الداخلية يظهر صورة حقيقية ومقلقة. ويقول: «في أعقاب حرب لبنان الثانية اقيم جهاز سلطة الطوارئ الوطنية الذي يستهدف معالجة احداث من هذا القبيل بالذات. اساس مهمته هو تنسيق أعمال محافل الطوارئ والنجدة. المشكلة هي أن لسلطة الطوارئ الوطنية توجد في افضل الاحوال صلاحية: «استخدام القوة»، أي استخدام الموجود. يضيف ايلاند: «حتى لو لم يتغير توزيع المسؤولية عن الموازنة بين الوزارات المختلفة، ففي موضوع جاهزية الجبهة الداخلية مطلوب ايضاً نظرة عرضية، وهي غير قائمة. وهكذا، توجد مليارات لبناء صواريخ مضادة للصواريخ ولكن لا توجد ملايين قليلة لطائرات الإطفاء. ويتساءل ايلاند: «ليس سراً أن في المواجهة العسكرية التالية سيقع الكثير من منشآت البنية التحتية الوطنية تحت تهديد الصواريخ الدقيقة. فمن المسؤول عن تحصين المنشآت؟ يتبين أن لا أحد! مدى الضرر أكبر بما لا يقاس مع تكلفة التحصين، ولكن لا توجد آلية تعرف كيف تنظر للموضوع بنظرة وطنية وتوفر ما يلزم لها من موازنة. ومن جهة أخرى قال ايلاند: «في ضوء دروس حرب لبنان الثانية تقرر تخصيص موازنة لمرة واحدة لتحسين منظومة الإطفاء. القرار بتخصيص نحو مئة مليون شيقل اتخذ على مستوى رئيس الوزراء قبل نصف سنة، ولكن لم يتم شراء شيء، ولم يصدر أي طلب، ولا حتى «رسالة نوايا». مثل هذه الرسالة لن يصدر الى ان تحول الحكومة المال، وهي لن تحوله الى أن تضع خطة تفصيلية والخطة التفصيلية لن تكون الى أن تُبحث مع وزارة الصناعات... البيروقراطية اقوى من كل ارادة وزارية.