نحن نتحول هذه الأيام إلى عام هجري جديد، وبعده بأيام أخرى إلى عام ميلادي جديد، وقد اعتدنا خطاباً تذكيرياً واعظاً حول تصرم الأيام وانقضاء الأعمار وضرورة المبادرة إلى صالح الأعمال والتزهد في الدنيا الفانية، وهكذا كلمات في نموذج معهود. في رأيي أن هذا الخطاب يجب أن يكون محل النقد والتقويم، ليس لأنه مكرور فحسب، ولكن أيضاً لأنه غير صحي ولا ينتج ثقافة فاعلة تحقق معنى الوجود وتحمل الإنسان مسؤوليته تجاه واقعه، فضلاً عن وعيه بمستقبله. نحن ندرك عدمية هذا الخطاب من محاور عدة. أولاً: الإسلام لم ينظر إلى الدنيا نظرة سلبية ماقتة لها مقللة من شأنها، بل كانت النظرة إليها وما فيها من المباهج والمنافع نظرة رائعة تجلت في امتنان الخالق جل شأنه على المخلوق بهذه الحياة (خلق لكم ما في الأرض جميعا)، (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) وفي الدنيا بعث الله رسله وأنزل كتبه وفيها طاعته والتقرب إليه، ومن هنا قدم الفقيه ابن تيمية نقداً متيناً للحديث المتداول على ألسنة الوعاظ «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها». صحيح أن الإنسان مذموم حين تكون أمواله بل وحتى أولاده شاغلاً له عن الله. إنه الإنسان وليست الحياة هو من تنحرف فطرته أو تستقيم! وهو الإنسان يعلق فشله على غيره، فنجده في هذا السياق يعلق مصائبه على الدنيا! كما نجده في أحايين كثيرة يعلقها على الشيطان الذي غالباً ما يكون حاضراً في ثقافة الخطاب الثقافي الديني باعتباره الفاعل للأخطاء في محاولة لتبرئة النفس! مع أننا نجد أن النبي «صلى الله عليه وسلم» استعاذ من شر النفس أولاً: «وأعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه»، ومن هنا فلا يصح توظيف الدين ونصوصه المقدسة لتسويق الانسحاب من الحياة وصناعة التأثير. ونحن مطالبون بالحياة كما أننا سنواجه الموت حتماً، فالحياة والموت كلاهما لله (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين). ثانياً: إن الصحيح من هذا الكلام التذكيري ليس مرتبطاً بمطلع العام الجديد، فنحن مأمورون بالطاعة والاستجابة في كل الشهور (إن عدة الشهور عندالله إثنا عشر شهراً). ثالثاً: إن طبيعة الحياة الحركة والتغير، وأي محاولة لمصادمة هذه الطبيعة لن يكون ضحية هذا الصدام إلا إنسان العجز والكسل والتراجع. وها نحن نرى واقع مجتمعات يحركها هذا النوع من الخطاب الانسحابي. نحن من خلال هذا النقد نأمل في تبدل الخطاب وانتقاله إلى حال وعي وإدراك لحقائق الوجود، خطاب يبعث على الحركة ويحفز الإبداع ويرسم جغرافيا المصلحة وفق نتائج العلوم وطبائع التحولات، أي يرفع مستوى الناس إلى حال الشهود والمشاركة.إن أكبر تحدٍ يواجه الإنسان هو ما تحمله «قوة الآن»، «قوة اللحظة». إنها القوة التي يفقد الإنسان سيطرته عليها، فكل لحظة هي «آن» جديد ومختلف، فلا شيء يتكرر بل كشيء يتغير، وتلك هي القوة التي تبعث على الشعور بالزمن وقيمته، ومن ثم تشكيل العلاقة معه بطريقة واعية ومدركة لطبيعته وعناصره، كم نشتكي من ضياع الأوقات ونعلن عجزنا عن ترتيبه وتنظيمه، ولذا يسعى آخرون لتقديم معالجات تمثلت في برامج ودورات لإدارة الوقت، إلا أن الشكوى مستمرة وستستمر لأن الدواء لم يلاقِ الداء. إن الوقت لا يدار، وللوقت بدائله، إذا ما علمنا الفرق بين الزمن والوقت، فكل ما نحدده فهو وقت (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً). (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس) وهو ما يُسمى بالزمن المقيد، لكن القوة والطاقة تنطلق من «الزمن المطلق» إنك في لحظات الحب والفرح تعيش الزمن المطلق، نحن بحساب الوقت نكبر كلما تقدم بنا العمر، لكننا بحساب الزمن نصغر كلما تقدم بنا العمر. ومنذ ولادتنا نحن نسير في طريق العودة في طريق الرجوع. ألسنا نكرر (إنا لله وإنا إليه راجعون)؟ فأعمارنا ليست إلا فرصة في عمر الزمن الطويل. لا يعني هذا التقليل من التخطيط للإنجاز، وإنما يعني أن التخطيط ليس كل شيء، وحتى التخطيط سيكون أكثر جدارة حين يتولد عند الإنسان شعور بالزمن، سيكون العام جديداً حين نمتلك رؤية ندري من خلالها كيف نصنع التغيير. تمنياتي لكم بعام جديد مجيد. [email protected]