من يتابع الأخبار السورية يشعر بخيبة أمل كبيرة، لما يعيشه هذا البلد من هزائم وانقسامات وتقاتل على كل شيء. فالأخبار الآتية من هذا البلد المحروق لا تبشّر بالخير ولا توحي بأن الحل قريب. لكن إرادة الحياة تغلب أحياناً العنف، ففي المجال الرياضي بات لدى المنتخب السوري لكرة القدم أمل بالتأهل إلى نهائيات كأس العالم في روسيا 2018 بعد فوزه على أوزبكستان، وفي المجال الفني استضاف «آرت دبي» أعمالاً نخبوية لأساتذة الفن السوري. ويبقى الحدث الأبرز معرض «سورية نحو الضوء» الذي تنظمه «مؤسسة أتاسي للفنون والثقافة» و «السركال أفنيو» الذي يُدشن بهذا المعرض مبنى الفاعليات المتعددة الأغراض «كونكريت» التي صمّمتها «أو إم أيه»، الشركة المعمارية الهولندية العالمية التي أسَّسها ريم كولهاوس الحائز «جائزة بريتزكر»، أهم الجوائز المعمارية في العالم. ويعتبر المعرض الأكبر الذي تنظّمه «مؤسسة أتاسي» وأول معرض لها بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعد تأسيسها السنة الماضية، ويستمر حتى الثالث من الشهر المقبل. وتشرف على تنظيمه منى أتاسي، مؤسِّسة «مؤسَّسة أتاسي»، بالتعاون مع القيِّمة والكاتبة رشا سلطي، ويتمحور حول مفهوم «صورة الجسم ورسمه» ويتضمَّن أكثر من 60 عملاً فنياً لأكثر من 40 فناناً سورياً يمثلون طيفاً عريضاً من الفنون السورية من عام 1924 حتى عام 2016. ومن خلال هذا المفهوم يرصد المعرض مسارات الحركة الفنية في سورية وتحولاتها وسياقاتها التاريخية وأبعادها الاجتماعية - الثقافية من مطلع القرن العشرين حتى يومنا هذا، ويُبرز التقنيات والوسائط الإبداعية المختلفة، مثل الرسم والنحت والصور الفوتوغرافية وفنون الفيديو. يلاحظ المتجول في المعرض مدى التطور الذي طرأ على المدارس الفنية في سورية، فالحرب والحب والسلطة والنقد والموسيقى والخراب والدمار، موجودة في المعرض وكأنه حدث يؤرخ تاريخ شعب بالفن. ومن الأسماء التي يشملها المعرض توفيق طارق، وفاتح المدرّس، والياس زيات، ويوسف عبدلكي، وهبة الأنصاري. والعديد من الأعمال المشاركة جزء من مقتنيات «مؤسسة أتاسي»، وتعرض للمرة الأولى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. واختيرَ معرض «سورية نحو الضوء» كأول حدث تستضيفه «كونكريت»، مبنى المعارض في «السركال أفنيو»، لإظهار الأبعاد الفريدة للمبنى المصمَّم لاستضافة معارض دولية في تجربة تضاهي التجربة المتحفية، وأيضاً كمساحة ملهمة وخلاقة تحتضن أحداثاً مختلفة. وقالت فيلما يوركيوت مديرة «السركال أفنيو»: «بافتتاح كونكريت لدينا اليوم مساحة رحبة صُمّمت وشُيّدت خصيصاً لاستقطاب معارض دولية بأبعاد مُتحفية رفيعة في دبي ودولة الإمارات العربية المتحدة. ولعلّ من أكثر ما يُبهر في كونكريت إمكان تغيير تصميمه وأبعاده بما يتناسب مع طبيعة كل حدث وخصوصيته، ولا يقتصر ذلك على الفاعليات الفنية والإبداعية، بل يشمل كل نشاط من أي نوع». ومن أهم أهداف معرض «سورية نحو الضوء» إبرازُ أهمية فن التصوير في الفنون السورية والتأثيرات الاجتماعية-السياسية لفن التصوير من مطلع القرن العشرين حتى يومنا هذا. وتقول منى أتاسي: «أن ننظرَ إلى الفنون السورية من خلال عدسة فن التصوير ليس مجرد محاولة لفهم سمات هذا النوع المتميز من الفنون فحسب، بل محاولة أيضاً لقراءة مسار الحركة الفنية السورية من خلاله». وتضيف: «أطلقنا مؤسَّسة أتاسي للتعريف عالمياً وإقليمياً بالحركة الفنية والثقافية السورية بأبعادها المختلفة، ويمثل هذا المعرض فرصة هائلة لسرد حكاية بلد وشعب، من خلال هذه المجموعة الفذة من الأعمال الفنية من مقتنياتنا الخاصة والتي سيشاهدها الجمهور في مبنى كونكريت الفريد في الدولة والمنطقة». ووجد الفنانون السوريون أنفسهم في تجسيد جسم الإنسان عالماً للترميز والتعبير، ولإبراز مكنون الفرد والجماعة، وأيضاً إبراز الذاكرة الجماعية أو التاريخ. ويمنح المعرض الجمهور فرصة سردية لا نظير لها لمعرفة ما كانت عليه الحياة في سورية على امتداد عقود القرن العشرين، من خلال وجوه رجال ونساء وأعيان وعمّال وتجار ورعاة وأبطال وشخصيات خرافية، بنظرات وأوضاع متباينة. وفي التاريخ الأوسع للفن الحديث في العالم العربي، استلهم الفنانون العرب رسم الشخصيات النخبوية، الاجتماعية والسياسية، من أوروبا في القرن التاسع عشر، وشاع هذا الفن لفترة وجيزة قبل منعطف الفن الحديث. ثم عاد الاهتمام بهذا النوع من الفن في مطلع القرن العشرين، غير أن تركيز الفنانين انصبّ هذه المرة على الأفراد العاديين، واقتربَ من حدود الحركة الاجتماعية لما شكَّله من تحدّ للنخبوية السائدة ومجتمعات ذات طبقات متمايزة.