لا بد أن هناك شعوراً منتشراً بالاختناق في مصر حتى يشغل «الحل» بال الثقافة والمشتغلين في الشأن العام المصريين إلى هذا القدر. معلوم أن شعار «الإسلام هو الحل» من ابتكار الإسلاميين المصريين. وفي مواجهة الشعار الإسلامي كان المرحوم فؤاد زكريا كتب مقالة نالت شهرة عريضة بعنوان «العلمانية هي الحل». ويبدو أن كتاباً بالعنوان نفسه صدر لكاتب مصري، فاروق القاضي، في وقت أبكر من هذا العام. ويختتم الروائي المصري علاء الأسواني معظم مقالاته الأسبوعية بعبارة «الديموقراطية هي الحل». لكن ما هي المشكلة؟ هي، بحسب الأسواني، نظام ثقيل اليد والظل، يحكم البلاد منذ ثلاثة عقود، ولعله يخطط لتوريث حكمها إلى أحد أبناء الرئيس الحالي. ولعلها بحسب الشعار العلماني انتشار «التأسلم» و «المتأسلمين»، وهذه تعبيرات مصرية، اشتهر بتداولها رفعت السعيد، «المعارض» المقرب من النظام (تنويعة مثيرة، لها «أشباه ونظائر» في غير مصر). أقول ذلك تخميناً، إذ لم أتمكن من الحصول على مقالة زكريا أو على الكتاب الذي سُميَ باسمها. وليس واضحاً ما هي المشكلة التي يمثل الإسلام حلها، بحسب شعار الإخوان المسلمين في مصر. لكن إجماع الإسلاميين المصريين على أن الإسلام نظام شامل للحياة، يوحي بأن المشكلة هي نظام الحياة الحالي، بقضه وقضيضه. كان المرحوم سيد قطب اعتبر المجتمع المصري في خمسينات القرن العشرين وستيناته «جاهلياً». وفي حين أن الإخوان المصريين لم يتقبلوا الطرح القطبي في حينه، إلا أن البنية الخلاصية المضارِبة لشعار «الإسلام هو الحل» لا تحيل إلا إلى ما يقارب الحكم بالجاهلية. وإذ هم يزدادون اليوم «تسلُّفاً» بحسب حسام تمام، الباحث المصري المختص بدراسة الحركات الإسلامية، وإذ يهيمن سلفيون و «تفاصليون» في مراتبهم العليا، فإن ما ينطوي عليه مدرك «الجاهلية» من فساد شامل مستغرق لكل شيء، يجعله أقرب إلى عالمهم الدلالي اليوم. والواقع أن للشعارات الثلاثة بنية خلاصية وكلية وواحدية. وتضمر ثلاثتها أن «المشكلة» كبيرة جداً ومعقدة، لكنها موحدة بصورة ما، وقد يمكن تلخيصها بكلمة واحدة: «الاستبداد»، أو «الأصولية» (يبدو أن الكلمة قليلة الاستخدام في مصر)، أو الفساد الكلي الشامل الذي يعادل «الجاهلية». وتطاول المشكلة أوجه الحياة جميعاً، وبدرجة متساوية، بما يغني عن مقاربات أكثر تفصيلاً لها، وبما يوجب أن تكون معالجتها شاملة وكلية. هذا ما يتضمنه مدرك «الحل». إنه واحد لا شريك له بالتعريف. القول إن «الإسلام هو الحل» يعني أنه وحده الحل. ومثله إذا قلنا إن «العلمانية هي الحل». فالمقصود أنها وحدها من دون غيرها. وبالطبع هذا يثير تساؤلاً بخصوص الشعار الديموقراطي. فالبنية الاستبعادية للشعار تتعارض مع المضمون الاستيعابي المفترض للفكرة الديموقراطية. و «الحل»، بعدُ، مُعرّف جيداً، ومعروف جيداً. فلا موجب للتساؤل عن المقصود بالإسلام، أو بالعلمانية، أو بالديموقراطية. بل قد يبدو تساؤل كهذا تشكيكاً في هذه المبادئ أو معاداة صريحة لها. والحال أن أياً منها ليس واضحاً. وأنها في الواقع مدركات مشكلة وملتبسة، ولعل إجمالها وإبهامها يساهمان في تعقيد مشكلاتنا بدلاً من توضيحها، وتالياً في جعلها أكثر استعصاء على المعالجات الناجعة والحلول المثمرة. لكن هناك بالفعل مشكلة تحلها هذه الشعارات. مشكلة تعريف الأطراف الرافعة لها. إن شعار «الإسلام هو الحل» تعريف للإخوان المسلمين المصريين، أو هو تحديد لهويتهم وتمييز لهم من غيرهم. ولعله لذلك لم يلق أيَّ صدى في أوساط الإخوان المسلمين المصريين اعتراضُ عدد من كتاب البلاد ومثقفيها على الشعار قبيل «الانتخابات البرلمانية». من يتخلى عن هويته؟ ويُعرِّف شعار «العلمانية» هي الحل لمجموعات علمانية ترفعه أكثر مما يقول شيئاً عن مشكلات مصرية، أو بالأصح «المشكلة» (الوحيدة وبأل التعريف) المصرية. وشعار «الديموقراطية هي الحل» هو أيضاً التعريف الأنسب ل «قوى ديموقراطية» مصرية ترفعه بدورها، وتميز نفسها به. أي أنه تتغلب في أفكار الإسلام والعلمانية والديموقراطية وظيفة الهوية على الوظيفة النظرية الخاصة بالشرح والتفسير، وعلى الوظيفة العملية الخاصة بوضع برامج العمل وتوجيه الفاعلية التغييرية المأمولة. وإنما لذلك، أي لأن الحلول هويات، تكثر الحلول وتزداد المشكلة تعقيداً. هذه الضروب من «الحل» تلزم من أجل ألا ننحل نحن، هذا القطاع أو ذاك من المصريين. وبينما ليست العلاقة بين عناوين الهوية هذه وبين المشكلات المصرية اعتباطية، ما دامت البلاد تعاني فعلاً من نظام تعسفي، ومن تشدد ديني منتشر لا ينفك يقضم حريات اجتماعية وثقافية للمصريين من دون ضمانة بأن يكون أكثر مراعاة لحرياتهم السياسية، وربما من استلاب معنوي وفقدان لمرجعية عامة توحد المصريين (الإسلام أحد أسس الشخصية المصرية والوطنية المصرية)، أقول بينما قد يكون الأمر كذلك، فإن الطابع الحصري ل «الحلول» الثلاثة يحد من إمكانية تعاون أصحابها في العمل العام، أو من قدرة أي منها على إخراج قطاعات أوسع من المصريين من سلبيتها، وتالياً يساهم في استمرار الأوضاع القائمة، الخانقة. ومن اللافت أنه ليس ثمة شعار يحيل إلى المشكلات الاجتماعية الاقتصادية التي تثقل كاهل أكثر من نصف المصريين، ولا أيضاً شعار يحيل إلى استقلال مصر وسيادتها ودورها المركزي في الإقليم العربي. لعل للأمر صلة بتدهور اعتبار كل من الفكرتين الاشتراكية (وكان الحل الاشتراكي هو النموذج الذي بني عليه الحل الإسلامي، الموصوف بالحتمية مثله أيضاً) والقومية العربية. وربما في العمق إلى هشاشة وضعف القوى الاجتماعية المصرية، ما يجعل التقلبات الأيديولوجية قوية التأثير عليها. وما يدفعها للتعويض بالشعارات والهويات. وما يفسر افتتانها بفكرة «الحل». فهل في الحضور الكثيف لفكرة «الحل»، وما تتضمنه من شعور بالجزع والإلحاح ونفاد الصبر، ما يقول شيئاً عن مستقبل مصر؟ هل يحتمل أن البلاد مقبلة في موعد غير بعيد على تحولات كبيرة يصعب تقديرها، على ما توحي كتابات مثقفين مصريين مستقلين؟ وإلا إلى متى يستمر المسار الانحلالي الحالي الذي يبدو أنه يبث شعوراً عاماً بالانجراف وفقدان السيطرة على المصير؟ ومعلوم أن هذا المسار ذاته يثير تفاعلات تعفنية في مجمل المنطقة العربية، على ما هو ظاهر منذ جيل وأكثر. هذا لأن مصر كتلة كبيرة، جغرافياً وتاريخياً وبشرياً وجيوسياسياً. ولأنها كذلك فإن من شأن تقدمها في معالجة مشكلاتها وحلها أن يكون مكسباً عاماً ينتفع منه العالم العربي. والعالم ككل.