ما تعريف الشرف؟ كونيّاً، الشرفُ واسعٌ شمولي، يشمل الصدقَ وإتقانَ العمل واحترامَ الآخر، وحفظَ العهد، ومساندةَ المحتاج، وعشراتِ المعاني النبيلة الأخرى. ولكن عربيّاً، من أسف، تقزَّمَ مفهومُ الشرف فقط في العلاقة بين الرجل والمرأة، ثم أُعيدَ تقزيمُه أكثر في جسد المرأة، ثم أُعيدَ تقزيمُة أكثر فأكثر ليكمن، وحسب، في العذرية! الأنثى الشريفة، عربيّاً، ليست مَن تمتلك رؤية محترمة للكون وللبشر ولفكرة الوجود، ولا هي التي تخدم البشرية وتساهم في تعمير الكون، ولا هي العالمة التي تمنح الإنسانيةَ اختراعاً يفيد الحياة، بل هي الفتاة التي تحفظ عذريتها من الهتك، وإن كان عقلُها ملوثاً بكل موبقات الرذيلة. ذلك هو دعاء الكروان وسؤاله الساخر للبشر وهو عنوان الرواية البديعة التي كتبها أحد أرفع أدباء العرب طه حسين، وظلّت ملهمةَ الأدباء والشعراء والسينمائيين والمسرحيين. ألهمت كاتبةً شابة، هي رشا عبدالمنعم، لتخرج منها برؤية درامية مستوحاة من لغة الجسد، والرقص التعبيري، الذي صممته وأخرجته فنانة شابة أخرى هي كريمة بدير. أما الرقص التعبيري، أو التعبير بلغة الجسد الصامت عبر الرقص، Choreography، فظهر مع ثلاثينات القرن الماضي على يد مصمم الرقصات الألماني كورت يوس Kurt Jooss، في اللوحة الراقصة التي قدمها بعنوان «الطاولة الخضراء» التي يسخر فيها من مباحثات السلام التي تعقدها الدول للتشاور في أمور البلاد وتقسيمها. كان طائر الكروان البديع، الخجول سهل الاصطياد، هو الشاهد على مأساة أسرة فقيرة من صعيد مصر بنسائها الثلاث. الأم زهرة كانت تؤوِّل تغريدةَ الكروان التأويل الدارج: «المُلك لك لك لك يا صاحب الملك»، بينما كان تأويل صاحبة المأساة هنادي: «أشكو لك لك لك يا صاحب الملك»، فيما كانت آمنة، الشاهدة على مقتل شقيقتها ترى أن عليها دَيناً لا بد أن توفيه. دَين أن تحكي حكاية هنادي للبشرية لتشهد كيف تُهان المرأة وتُظلم. من هنا كانت ترى أن الكروان يقول: «أحكي لك لك لك». تقول آمنة: «بتقتلنا الحكاوي زي ما بنقتلها بحكينا ليها. لكن الشيء العجيب إن الحكيوة دايماً أبقى منينا». بمناسبة عيد ميلاد عميد الأدب العربي طه حسين (1889 - 1973) ، تقدم الآن الفرقة القومية للعروض التراثية على مسرح الغد بالقاهرة رؤيةً درامية راقصة مستوحاة من رواية طه حسين «دعاء الكروان». بمجموعة جميلة من الراقصات والراقصين الذين استوعبوا جيدّاً رواية طه حسين، ورؤيتي رشا عبدالمنعم وكريمة بدير الدرامية والفنية، فأتقنوا الكلام بالجسد كخير ما يكون الكلام. خرجت الرقصات يشوبها شيء من التوتر والعصبية، أظنهما مقصودين، للدلالة على الثورة التي يحملها جسد المرأة ضد كل الممارسات العنيفة التي تُمارس ضده من قِبل الرجل. فالذي ينال من شرف المرأة رجلٌ، والذي يهدر دمها، ثأراً للشرف، رجلٌ! حتى الإروتيكا الصارخة التي حملتها الرقصات وُظِّفَت التوظيف المناسب، وإن تعاظمت لغة الجسد طولاً، على حساب اللغة المنطوقة، واللغة البصرية، التي اعتمدت في ديكورها على أوتاد هرمية مثل الخيام، قد تشير إلى أحادية التفكير العربي، وحدّته، وفي لونها الأزرق الصريح تكمن ظلاميةُ التفكير البطريركي وجموده وكآبته. إذا ما اعتبرنا أن اللون الأزرق يحمل كل هذه الدلالات في الثقافات الغربية، ومنها Blues، وهو لون من الغناء يحمل القدر الوافر من التعاسة والحزن. ثمة مشهد مفصلي لخّص مأساة المرأة العربية في دقيقة. حوار بين الأم وشقيقها، خال البنتين، الذي سفح دم ابنتها هنادي. أخبرته فيه أن مفهوم الشرف لديه مبتور. فقد تركهن، هي وابنتيها، يقاسين الفقر المريع، تتضور أجسادهن جوعاً وعرياً، ثم جاء ليذبح تلك الأجساد لمّا استسلمت لكلمة حنون من رجل غريب! نجح العرض في تقديم رؤية ما بعد حداثية، تُجاور ما بين المدارس الفنية المتباينة. فنجد المنشدة تجلس على مقعد النورج الريفي، تعدد العدّودة الرثائية الشعبية، ثم تمزج نهايات الكثير بمقاطع عالية النبرة من نغمة ميتزو سوبرانو الأوبرالية، التي بدت مثل صرخة أنثى ملتاعة. كذلك الخال الدموي الغليظ القلب، كان يرقصُ، في جلبابه وعمامته، باليه، فخرجت لنا لوحات جسدية ثرية تمزج ثقافات العالم في نسيج مركّب يقول رسالتَه في بلاغة: الإنسانُ متشابهٌ، وخطيئته واحدة في مجمل أرجاء الأرض. الجهل والعماء والازدواجية.