يدور الحراك السياسي في لبنان والمنطقة حول القرار الاتهامي في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، المرتقب صدوره قريباً عن المدعي العام الدولي القاضي دانيال بلمار، وما يمكن أن يتضمنه من اتهامات ووقائع، خصوصاً في حال تسمية عناصر من «حزب الله» بالتورط في الجريمة وتداعيات ذلك على الواقع السياسي في ظل الانقسام السياسي الحاد حول المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. وتحاول المساعي السعودية والسورية احتواء التداعيات المرتقبة للقرار، والتركيز على تقليص عوامل الاحتقان والحرص على استتباب الأمن والاستقرار. ولا تزال هذه المساعي تدور في حلقة مفرغة، نتيجة الضغوط الأميركية والفرنسية الكبيرة والحسابات الخاصة لكل من الرياضودمشق. ويُتداول في الكواليس عن تسوية تلحظ إعادة النظر بالاتفاقية المبرمة بين لبنان والأمم المتحدة في شأن المحكمة الدولية، من خلال أن يطلب لبنان تعديل بعض بنود هذه الاتفاقية، بحيث لا تعود المحكمة سيفاً مسلطاً على المقاومة. ولكن يبقى ذلك من باب التكهنات، حيث لم يتبلور حتى الآن أي صيغة تؤدي إلى بلوغ حل يجنب لبنان خطر ارتدادات القرار الاتهامي. وأدت الوعكة الصحية التي ألمت بالعاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وغيابه عن المملكة للعلاج في الخارج، إلى توقف الاتصالات بين الرياضودمشق وتجميد مساعي التسوية، لغاية تعافي العاهل السعودي من الجراحة التي أجريت له. وتحتاج التسوية التي تعمل الرياضودمشق على إنجازها إلى موافقة طهران، التي تتمتع بنفوذ كبير في لبنان من خلال حليفها القوي «حزب الله». وتحاول إيران إقامة علاقة جيدة مع الطائفة السنية في لبنان وكسب صداقتها، من خلال تواصلها مع رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري وإبداء رئيسها محمود أحمدي نجاد اهتمامه الزائد به لدى زيارته الأخيرة إلى لبنان وحفاوتها البالغة به لدى زيارته طهران ومطالبتها بكشف حقيقة جريمة الاغتيال. إلا أنها ترفض أي صيغة تسوية تمس بالصورة المقاومة ل «حزب الله»، وتظهره أمام العالم بمثابة حزب إرهابي، ينفذ عمليات الاغتيال ضد قيادات وطنية كبيرة، ما يفقده تعاطف المسلمين والعرب وأحرار العالم ودعمهم. وتتواصل طهران مع الرياضودمشق لإيجاد مخرج مقبول للقرار الاتهامي المرتقب، يريح المنطقة ومجمل الأطراف السياسية في لبنان. وكشفت زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى بيروت، وإعلانه في مؤتمره الصحافي عن تواصله مع الرئيس السوري بشار الأسد حول الأزمة اللبنانية ومساندته الجهود السعودية والسورية، ولقاءاته مع مختلف القوى السياسية، مدى الاهتمام التركي بالوضع اللبناني من أجل منع انزلاق الأزمة إلى متاهات تصعيدية خطيرة. وتحظى الجهود التركية باهتمام القيادات اللبنانية وترحيبها، نتيجة مواقف أنقرة الداعمة للحقوق العربية والمناهضة للغطرسة الإسرائيلية، وعلاقاتها المميزة مع دمشق، وانفتاحها على طهران ومواصلة التبادل التجاري معها على رغم التحذيرات الأميركية. ويحاول أردوغان الذي يحظى بمحبة اللبنانيين والعرب، نتيجة شخصيته المميزة وصدقه وحكمته وحنكته وصلابته واندفاعه في تأييد قضايا العرب المحقة وانفتاحه عليهم، القيام بمسعى توفيقي في لبنان يتلازم مع المساعي الأخرى، ويؤدي إلى ترسيخ الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية، والأهم تثبيت الدور الفاعل لتركيا في الإقليم. وكان «حزب الله» بدأ منذ أشهر حملة عنيفة على المحكمة الدولية، ومارس ضغوطاً قوية على الحريري، من أجل الاستجابة إلى مطلبه برفض القرار الاتهامي قبل صدوره، بذريعة أن المحكمة الدولية مسيّسة، تنفذ الأهداف الأميركية والإسرائيلية للقضاء على المقاومة والتخلص من سلاحها. ولم يتجاوب الحريري مع مطلب الحزب كونه يتعارض مع ثوابته وعلى ما أجمع عليه اللبنانيون من ضرورة كشف الحقيقة وتحقيق العدالة، ولأن المحكمة والقرار الاتهامي شأن قائم بموجب قرار مجلس الأمن الدولي، وليس في استطاعة أحد تغيير ذلك، ولا سلطة له على المحكمة، لأن سلطتها وصلاحياتها تتخطى كل القوانين في أي دولة كانت استناداً إلى قرار إنشائها من قبل مجلس الأمن. وتحول «حزب الله»، بعد أن فشل في إحالة ملف ما يسمى «شهود الزور» على المجلس العدلي اللبناني، من أجل تعطيل عمل المحكمة الدولية وطمس الحقيقة الكاملة عن جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وفقد الأمل من رضوخ الحريري إلى الضغط، وسلّم باستحالة إلغاء المحكمة أو منع صدور القرار الاتهامي، إلى التحذير من عواقب تنفيذ السلطات الأمنية التزاماتها حيال المحكمة، بتوقيف المتهمين في جريمة الاغتيال وإرسالهم إلى المحكمة. ووصل الأمر بأمينه العام السيد حسن نصر الله إلى التهديد في خطابه يوم الشهيد ب «أن اليد التي ستمتد إلى أي واحد من مجاهدي الحزب ستقطع» والتأكيد ب «أن التسوية أو الحل لن يكون على قاعدة قبوله بالاتهام»، واتهام «كل من لا يقف معه ضد المحكمة، بضلوعه في المؤامرة الأميركية – الإسرائيلية ضد المقاومة». وينتهج الحزب في سبيل الوصول إلى غايته سياسة شل الحكومة ومقاطعة طاولة الحوار ومواصلة التعبئة والشحن السياسي والإعلامي، والتهديد بتغيير الوقائع السياسية بفعل القدرة الميدانية، حيث لا يتوقف بعض قيادييه عن تكرار القول بأن «من لديه القدرة على صناعة الحقائق الميدانية هو الذي يقرر في السياسة»، الأمر الذي يؤشر إلى عدم استعداده قبول الحل الوسط في قضية القرار الاتهامي. ولكن تشير المعطيات عكس ذلك، حيث يعيش «حزب الله» في مأزق المواقف التصعيدية التي ينتهجها منذ أشهر ضد القرار الاتهامي، ولم تؤد إلى أي نتائج سلبية على مسار المحكمة والقرار الاتهامي، وهو يراهن حالياً على المساعي الإقليمية الجارية لإنقاذه من ورطته، خصوصاً أنه يعرف جيداً أن استخدام السلاح في الداخل مرة أخرى، ستكون له مفاعيل سلبية على المستوى اللبناني والإقليمي والدولي. في المقابل، تعتبر شريحة كبيرة من اللبنانيين أن تمسك «حزب الله» بمطلب التبرئة الناجزة من جريمة اغتيال الحريري كحل وحيد للتسوية، يؤدي إلى طمس الحقيقة وتقويض العدالة والإمعان في قهرها وقهر أهالي الشهداء. وتتمسك بالمحكمة الدولية وتثق بها، وترفض الضغوطات التي يمارسها الحزب عليها وعلى الحريري وبعض القوى الإقليمية، وتنتظر صدور القرار الاتهامي لترى ما يتضمنه من وثائق وقرائن لتبني على الشيء مقتضاه. فهل في الإمكان التوصل إلى تسوية من أجل حماية الاستقرار والسلم الأهلي، وتكشف في الوقت نفسه الحقيقة وتحقق العدالة؟ * كاتب لبناني