مع العاصفة الأخيرة لتسريبات «ويكيليكس»، وقع المشهد العالمي في قبضة «الواقع الفائق» (هايبر ريالتي - Hyper Reality) للأزمنة المعاصرة. لم يعد الواقع الذي نعيشه فعلياً سوى مزيج من افتراضية الإنترنت (نموذجها تسريبات «ويكيليكس») والواقع المادي الملموس في عوالم السياسة والاقتصاد والإستراتيجيا والأمن والتسلح والديبلوماسية والقوانين، بل حتى الثقافة والأخلاق. صار الواقع مزيجاً قوياً وغير مسبوق تاريخياً، من افتراضية الكومبيوتر والشبكات الرقمية والفضاء الإلكتروني للإنترنت، وبين الحياة الملموسة المُعاشة. إنه مشهد غير مألوف، يظهر منحى معاصر ومابعد حداثي بامتياز في المجتمعات المعاصرة، وذلك أشد الأمثلة قوة على مفهوم «الواقع الفائق». الأرجح أن تظل هذه السابقة في الأذهان طويلاً، وأن تنال تحليلات كثيرة ومتشعّبة. لقد أضيف بُعد آخر الى العيش، امتدت حدوده وصارت تصل إلى خارجه وتلامس مساحة غير مادية ولا ملموسة ولا تقاس بحواس البشر ولا بمُدركاتهم المُجرّدة. ثمة شيء آخر (هو الافتراضي) تداخَلَ مع كل ما يحيط به كلمات، مثل: حياة، عيش، عالم، وجود، وواقع. وكذلك لم يبق الافتراضي حبيساً في فضاء الإنترنت والشبكات والأجهزة والشاشات، اذ تلاعبت حدوده طويلاً مع الواقع الفعلي. لقد انتهت اللعبة. خرج الافتراضي نهائياً من ذلك الفضاء الذي يفكر به كثيرون وكأنه عالم منفصل تصنعه التقنية الرقمية. خرج الافتراضي نهائياً كي يتداخل وينحلّ ويذوب ويتلابس مع الواقع الفعلي، ما بدّل هوية هذا الأخير أيضاً. وصار هذا المزيج المتداخل والمتلابس، هو الواقع الفائق الذي تعيشه المجتمعات المعاصرة حاضراً. الصحافة في عين العاصفة اجتاح الواقع الفائق الخارج من قمقم تسريبات ويكيليكس، الصحافة أولاً، على عكس ما ردّدته بعض وسائل الإعلام (مثل مجلة «كورييه إنترناسيونال») من أن الصحافة هي الرابح الوحيد من هذه التسريبات. لقد دخلت الصحافة إلى عاصفة التسريبات بإرادتها، وأخرجت المارد من القمقم، لكنه أفلت بعيداً من سيطرتها، بل صارت هي بعضاً من تلاعباته! وبحسب صحيفة «لوموند» الفرنسية، لا ينشر «ويكيليكس» أي وثيقة عن الديبلوماسية الاميركية من دون موافقة الصحف الشريكة الخمس، وهي «نيويورك تايمز»، «در شبيغل»، «غارديان»، «إل باييس» و «لوموند». وجنّدت هذه الصحف قرابة 120 صحافياً لتحليل هذه الوثائق. وأوضحت سيلفي كوفمان مديرة التحرير في «لوموند»، أن الصحف الخمس تبادلت الكثير من المعلومات والتحليلات والخبرات عبر اتفاقها على برنامج لنشر الوثائق بطرق مختلفة. واتفقت الصحف على طريقة النشر إلكترونياً لتلك الوثائق، تشمل إخفاء بعض الأسماء والمعطيات المتصلة بأمن الأشخاص. وشددت كوفمان على أن «ويكيليكس» قدم هذه الوثائق مجاناً، مؤكّدة أن الصحف لم تشكَّ للحظة بمصداقية الموقع. وصدرت تعليقات مماثلة لما قالته كوفمان، على لسان مارسيل روزنباخ، من إدارة «در شبيغل» الألمانية. وأوضح روزنباخ أن الصحف تشاورت بكثافة مع الحكومات المعنية بما تتضمنه وثائق «ويكيليكس». في المقابل، لم يُظهر «ويكيليكس» اهتماماً بطريقة نشر وثائقه، ولا يَصعُب فهم ذلك إذا تذكرنا الإثارة الشديدة التي أحاطت دوماً بنشره ما لديه من وثائق. وفي احدى المرات، جنّدت فضائية عربية طواقم من موظفيها ليشاركوا في تحليل وثائق «ويكيليكس»، التي عوملت أيضاً باعتبار أن صدقيتها مضمونة تماماً. لنُكرر النظر في هذه الصورة.: يحصل موقع افتراضي على وثائق من العالم الفعلي، ثم تتهافت عليها صحف كبرى ومحطات تلفزيونية رئيسية، إضافة إلى إنتشارها الواسع في فضاء الإنترنت وشبكاتها. تكاد الوقائع تنطق عن نفسها لتقول ان الإفتراضي جرّ الجميع الى لعبته، فصاروا جزءاً منها. وسرعان ما تجاوز «ويكيليكس» الحدود كلها، عندما طالب هو (وليس الصحف ولا التلفزة) باستقالة وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، بدعوى أن إحدى الوثائق تظهر أنها «طلبت» من موظفيها التجسس على ديبلوماسيين كوريين شماليين في الأممالمتحدة. هل يمكن إغلاق العين للحظة وتخيّل وضع أروقة الأممالمتحدة وديبلوماسييها عند قراءة تلك الوثيقة، عند قراءة آلاف الوثائق الديبلوماسية التي يفترض أنها رهينة أعراف الديبلوماسية وأسرارها، وعند قراءة طلب إقالة وزيرة الدولة الأقوى عالمياً؟ ربما هذا ما دفع البيت الأبيض للرد على هذه المطالبة، بمعنى أن ما قاله جوليان أسانج، مؤسس «ويكيليكس»، استدعى رداً من أعلى سلطة في عالم السياسة الدولية المعاصرة. الافتراضي يتلابس «السيادة» كيف تمكّن «ويكيليكس» فعلاً من الحصول على هذه الوثائق؟ هل هي القدرة العالية للهاكر المتمرس جوليان أسانج، مؤسس «ويكيليكس» وفرق الهاكرز التي تؤازره، أم أن في المسألة شيء آخر؟ كيف تمكّن هؤلاء من اختراق الأمن العالي للشبكات الرسمية الأميركية، خصوصاً تلك المتصلة مع الشبكات العسكرية للبنتاغون؟ هل اختُرِقت فعلياً؟ هل شكّل خبير المعلوماتية الضابط برادلي ماننغ، المحكوم بالسجن 52 عاماً، رأْسَ جسر في اختراق معلوماتي، بحسب ما صرّح هو به لهاكر شهير (أدريان ألامو) قبل نشر الوثائق، استخدمه الاسترالي أسانج للوصول الى تلك الوثائق كلها؟ هل يمثّل ماننغ حالاً غير متوقعة من الاختراق الداخلي لشبكة «سيبرن» (SIPRN) «سيكريت إنترنت بروتوكول راوتر نتوورك» (Secret Internet Protocol Router Network) العسكرية، أم أن في المسألة بُعداً لم يظهر لحد الآن؟ تبرّر هذه الأسئلة نفسَها، ليس انطلاقاً من عقلية المؤامرة، بل من العمل الإستراتيجي الكثيف للولايات المتحدة في مجال الأمن الاستراتيجي للشبكات، بما فيها شبكة الإنترنت، وخصوصاً الشبكات الحكومية المدنية، إضافة الى شبكاتها العسكرية. ربما من المفهوم أكثر أن تتمكَّن الصين، التي تمتلك جيشاً خاصاً بالمعلوماتية تدعمه الجامعات والشركات والمجموعات الخاصة والشخصية، من اختراق بعض نقاط في الشبكات الأميركية، أما أن يحصل ذلك على أيدي من يفترض أساساً أنهم هواة، فذلك ما يثير أكثر من سؤال. وأياً كانت الإجابة، فقد نجح «ويكيليكس» في اختراق مفهوم السيادة للدولة على الجبهة الإلكترونية. ومنذ مدّة، باتت السيادة الإلكترونية مفهوماً مكرّساً في كثير من الأوساط الإستراتيجية والسياسية. وفي خضم الاختراقات المتتالية ل «ويكيليكس»، عانت إيران من وطأة الواقع الفائق، عندما خرج فيروس إلكتروني من قمقم العالم الافتراضي، ليجتاج أجهزة الطرد المركزي في مفاعلاتها النووية. وبعد طول عناد، اعترف الرئيس الإيراني أحمدي نجاد بهذا الاجتياح. وقد نسبه خبراء الى فيروس «ستاكس نت» الشهير، الذي يُرَوَّج أنه من صنع اختصاصيين أميركيين في اختراق الشبكات الإلكترونية. وبعيد هجمة «ويكيليكس» الأخيرة، أعلنت وزارة الامن العام الصينية، أنها اعتقلت ما يزيد على 460 من قراصنة الانترنت منذ بداية هذا العام، موضحة أن ذلك لا ينفي إمكان حدوث اختراقات على نُظُم الكومبيوتر في البلاد. وبيّنت الوزارة أنها تصد عشرات الهجمات الإلكترونية سنوياً على شبكة الإنترنت فيها. والمعلوم أن تسريبات «ويكيليكس» تضمّنت رسالة زعم فيها مصدر صيني لم يكشف عن اسمه، أن المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني أدار عملية تسلّل لنُظُم الكومبيوتر في شركة «غوغل»، في إطار حملة منظمة أدارها خبراء على علاقة مع الحكومة الصينية. وقد رفضت الحكومة هذه المزاعم رسمياً، طالبة من الحكومة الأميركية التثبّت من معطياتها تلك.