لم يسبق أن اثارت قضية اختطاف واحتجاز جدلاً واسعاً داخل المجتمع الروسي، كما حدث عند مناقشة ملف ايغور بيتشكوف. وباستثناء حوادث احتجاز الرهائن المعروفة على ايدي المجموعات الإرهابية، تعد قصة بيتشكوف واحدة من تلك القصص التي فتحت الباب واسعاً لتفجير قضية تبدو ابعادها أوسع بكثير من الموضوع الذي كان حتى وقت قصير مطروحاً أمام المحاكم الروسية. ايغور بيتشكوف شاب روسي عادي جداً، لكنه «مشغول بالهم العام» كما يصفه البعض، انخرط في نشاط اجتماعي يهدف الى انقاذ سكان مدينته «نيجني تاغيل»، من وحش المخدرات المستشري بقوة في أوساط الشباب، وعمد لهذه الغاية إلى تأسيس منظمة اجتماعية أطلق عليها تسمية «مدينة بلا مخدرات» معتمداً مع زملاء انضموا إلى منظمته، على حملات توعية واسعة، امتدت لتشمل نشاطاً أكبر عندما افتتح دورات لإعادة تأهيل المدمنين. بقي النشاط محموداً إلى أن قرر أنه من أجل مكافحة انتشار المخدرات بفعالية أكبر، لا يكفي أن «يتعامل» مع الضحية، لأن «عجز القانون أحياناً وانتشار الفساد غالباً، يمنح المجرمين في أحوال كثيرة فرصاً لمواصلة نشاطهم وتعزيزه مع شعور قوي بأنهم بمنأى عن المحاسبة الجادة». عند هذه النقطة انزلق نشاط «مدينة بلا مخدرات» نحو محاولة تطبيق القانون بمعزل عن مؤسسات الدولة عبر اختطاف بعض مروجي السموم وتعذيبهم بهدف الحصول على معلومات حول «الرؤوس الكبيرة» التي تحرك نشاطهم. ظنّ بيتشكوف أنه سيكون قادراً على تقديم ملف معلومات كامل إلى الأجهزة التي اظهرت عجزاً في التعامل مع الموضوع، وكان أحد أسباب تحركه كما ظهر لاحقاً، أن غالبية مروجي السموم البيضاء كانوا يخرجون بعد اعتقالهم «مثل الشعرة من العجين»، إما لخطأ في الإجراءات أو لعدم ثبوت أدلة عليهم... كان واضحاً له أن المطلوب إجبارهم على تقديم المعلومات بأي طريقة. قصة تبدو أشبه بفيلم سينمائي يسعى البطل فيه إلى تحقيق العدالة التي عجز عن ادراكها المجتمع ومؤسسات الدولة. لكن الواقع يختلف طبعاً عن الأفلام. واعتُقل بيتشكوف بتهمة احتجاز رهائن، وخاض محاكمة اكسبته شهرة واسعة بعدما حصل على تعاطف غير مسبوق من جانب المؤسسات الاجتماعية وبعض رجال السياسة ووسائل الإعلام وحتى موظفي الدولة والأجهزة المعنية. وتحول بيتشكوف إلى بطل، وتحت ضغط المداولات في «قضية الرأي العام» حصل على حكم مخفف جداً مع وقف التنفيذ. فتحت القضية الباب لمناقشة أوسع في البلاد، ف «ظاهرة» بيتشكوف هي امتداد جلي لمشكلة ما زالت منذ سنوات موضوع نقاش دائم تباينت آراء الخبراء في شأنها: «الانتقام بعد ظهور عجز القانون في رد الحقوق لأصحابها». ظاهرة اتسع نطاقها بشكل واضح في السنوات الأخيرة حتى غدت «أمراً طبيعياً» كما يقول بعض الخبراء. وبداية ينبغي توضيح الفرق برأي الخبراء بين الظاهرة المنتشرة في روسيا وعادة الأخذ بالثأر التي ما زالت دارجة في مناطق عدة. وفي حين أن الضحية أو أحد اقاربها يسعون إلى الثأر لما أصابهم في الحال المعروفة لمجتمعات كثيرة، فإن الانتقام المقصود هنا يمكن أن ينفذه أي شخص أو مجموعة ليس لها صلة مباشرة بالضحية، لمجرد الاعتقاد أنهم بذلك يحققون العدالة الغائبة، أو يعملون على انقاذ المجتمع من شر أو خطر يتهدده. وزادت في السنوات الأخيرة على نحو ملحوظ في روسيا ظاهرة قتل مشتبه بارتكابهم جرائم من نوعيات مختلفة، وفي حالات كثيرة عمد اشخاص إلى قتل مرتكب مخالفة حتى قبل بدء التحقيق في القضية. وتنوعت الحوادث المماثلة حتى طاولت كل مناحي الحياة، فهي تكررت في حوادث السير وعند وقوع جرائم اغتصاب أو سرقات وغيرها الكثير. ويلاحظ خبراء في معهد سيادة القانون أن عنصرين جمعا بين القضايا المماثلة في سلوك منفذي عمليات الانتقام، أولهما تجذر شعور عميق بأن القضاء لن يعيد الحق المهدور، وثانيهما أن الانتقام ذاته ينفذ غالباً بطريقة وحشية جداً. انقاذ مجتمع أم انتقام؟ وإذا كانت هذه الحوادث التي تتواصل يومياً «تقليدية» أي أنها لا تعكس بعداً «أيديولوجياً» لمنفذيها، فإن ظهور تسجيلات على شبكة الإنترنت لطريقة تنفيذ الجريمة يدل إلى تحول الظاهرة إلى عمل مقصود يستهدف «انقاذ المجتمع من الخارجين على القانون» وتقديم عبرة. ففي ايلول (سبتمبر) الماضي ظهر على الشبكة العنكبوتية فيلم قصير يظهر قيام شابين بقتل سارق سيارات، بأدوات معدنية حتى الموت، بدافع «إنقاذ البلاد من الشر» كما يرون، ويكفي أن يتخيل المرء أن عملية قتل السارق ترافقت مع عبارات صارخة من نمط «خذ أيها السارق، وكن عبرة»، فيما يقوم أحد الأشخاص بتصوير التفاصيل لنشرها لاحقاً. وفي حالات عدة كان هدف «الانتقام» هو تحقيق العدالة الاجتماعية بعد تنامي الشعور بالإحباط. وهذه حال سيرغي روداكوف (50 سنة) وهو من ذوي الحاجات الخاصة، وكان فقد يده أثناء عمله، لكن صندوق التعويضات الاجتماعية ماطل لمدة 18 سنة في تعويضه، وكانت النتيجة أن قتل سيرغي محامي الصندوق ومديرته قبل أن ينتحر. ولم تلبث أن ظهرت على شبكة الإنترنت رسالة مكتوبة بخط يده قبل الحادث يبرر أسباب اضطراره إلى الانتقام ويقول فيها انه «لم يعد يستطيع احتمال هذا الظلم» وسوف يأخذ بيده «حقه وحق كثيرين من أمثاله». ومع زيادة اتساع الظاهرة لتشمل كل مناطق روسيا وكل أوجه الجريمة التي تظهر القوانين تسامحاً أو عجزاً عن مواجهتها، يزداد طرح السؤال الأهم، حول التعاطف الذي يحصل عليه منفذو العدالة الشعبية في كل مكان يحلون به. في حزيران (يونيو) الماضي، اصدرت محكمة في فلاديقوقاز حكماً بالسجن ثماني سنوات على ايلفينا تسوغويفا لأنها قتلت شاباً اغتصب طفلتها. وفور صدور الحكم شهدت المدينة والمناطق القوقازية المجاورة تحركات شعبية واسعة النطاق رفعت شعاري «أعيدوا الأم لأطفالها» و «المجرم الحقيقي نال جزاءه العادل»، وجمعت الحملة تواقيع عشرات الألوف على رسائل موجهة إلى الرئيس ديمتري مدفيديف ورئيس الوزراء فلاديمير بوتين، وتحت هذا الضغط كله خففت المحكمة العليا العقوبة إلى بضعة شهور خرجت المنتقمة بعدها من السجن وسط استقبال غير مسبوق. ولا تغيب عن الأذهان قصة فيتالي كالويف من اوسيتيا الشمالية الذي فقد زوجته وابنتيه في حادث سقوط طائرة تابعة لخطوط «سكاي غايد» السويسرية في العام 2002 كانت تقل رحلة مدرسية، وقضى في الحادث أكثر من مئة طفل. وأظهرت التحقيقات مسؤولية مراقب التحكم الجوي السويسري بيتر نيلسون عن الحادث، الذي سرعان ما قتل بعدما طار الأب الغاضب إلى زوريخ ونفذ حكم «العدالة الشعبية». اللافت أن الرجل الذي قضى في سجن سويسري ثلاث سنوات عاد بعدها إلى روسيا ليجد استقبالاً حافلاً لم يشهده فاتح، عشرات الألوف استقبلوا المنتقم بالورود واللافتات التي تؤكد أنه «نفذ ارادة الشعب كله»، لكن اللافت أكثر أنه لم تمض شهور بعد ذلك حتى عيّن كالويف في منصب نائب وزير في الجمهورية الذاتية الحكم. لقد منح مكافأة على فعلته، وتجاهل كثيرون بينهم ان ما منحه المنصب الرفيع هو قتله رجلاً مع سابق الإصرار ويتم عائلة بشكل متعمد، على رغم أن نيلسون عندما ارتكب خطأه القاتل لم يتعمد قتل الأطفال. يلقي خبراء باللوم على نقص القوانين وبيروقراطية الإجراءات، ما يدفع إلى تعزيز الثقة بأن تنفيذ «العدالة الشعبية» من طريق الانتقام المباشر هو السبيل الوحيد لاسترداد الحقوق أو التعويض عنها في اضعف الحالات. وبحسب محام درس هذه الظاهرة، فإن مشكلة «القانون الأعمى» تؤدي في الغالب لزيادة الحنق، وتبرر اللجوء إلى تصفية الحسابات بمعزل عن القضاء. ويرى المحامي أن تنامي الظاهرة له علاقة مباشرة بنمو «العداونية» عموماً في المجتمع، و «علينا أن نسأل لماذا تتنامى المشاعر العداونية عند الشباب، ولماذا نتحول إلى استخدام العنف لتنفيذ أي غرض». ويخلص المحامي إلى نتيجة أن المجتمع فقد الثقة نهائياً بمؤسسات الدولة وأجهزة القانون، وحتى في الحالات التي يصدر فيها حكم عادل على المجرم، «لا أحد يثق بأن الحكم سوف ينفّذ وأن المجرم لن يتمكن بطرق ملتوية من تقليص فترة عقوبته ومتابعة نشاطه الإجرامي.