التفاف أكثر من ثلاثة ملايين مغربي حول قضية واحدة، في مسيرة سلمية في الدارالبيضاء، ليس من قبيل الأحداث التي تطفو فجأة على السطح. ولو أن تلك التظاهرة الحاشدة اختير لها ان تلتئم في المحافظات الصحراوية أو على مشارف مدينتي سبتة ومليلية اللتين تحتلهما اسبانيا شمال البلاد، لتجاوزت أرقام المتطوعين تلك الملايين بالأضعاف. مصدر الزخم الشعبي في مسيرة بهذا الحجم، يكمن في الإجحاف الذي أحس به المغاربة، وهم يحصون قتلاهم بين افراد قوات الأمن الذين نحروا بالسكاكين والسيوف. لم يكن الأمر يتعلق بسوء تقدير لمتطلبات تفكيك خيم نازحين يتحدرون من أصول صحراوية رفعوا مطالب اجتماعية. كان عدم لجوء قوات الأمن الى الدفاع عن النفس اختياراً سياسياً وأخلاقياً في تدبير قضية شائكة، من دون اللجوء الى استخدام القوة. وحدث ان بعض الضحايا كانوا بدورهم يتحدرون من أصول صحراوية. صادفت أحداث العيون الدامية ذكرى حدثين: المسيرة الخضراء وإبرام اتفاق مدريد الذي ترتب عليه انسحاب الإدارة والجيش الإسبانيين من الساقية الحمراء ووادي الذهب. غير ان اللافت ان الحزب الشعبي الإسباني دخل طرفاً مباشراً في النزاع. ولم تعد بعض الأصوات المتشنجة تخفي ان العلاقة بين اسبانيا والصحراويين ذات جذور ثقافية. بل ان بعضهم ردد ان الصحراء اسبانية... هكذا يعود النزاع شبه المنسي الى مربع آخر هو المواجهة الديبلوماسية بين الرباطومدريد. رئيس الوزراء الإسباني السابق ماريا ازنار رد بقوة على الجلاء الإسباني عن الصحراء بعد مرور ما يقارب الثلاثة عقود، عندما أمر باحتلال جزيرة ليلى شمال البلاد، على خلفية انتشار بضعة أفراد من القوات المغربية في سياق الحرب على الهجرة غير الشرعية. ولا يبدو ان بصمات الحزب الشعبي بعيدة من جولات صراع أقحم فيه البرلمان الأوروبي. وبالتالي يصبح تنظيم مسيرة حاشدة في الدارالبيضاء ضد الحزب الإسباني المحافظ جزءاً من استحضار التاريخ، غير ان اليوتوبيا التي حقن بها بعض السياسيين الإسبان يمكن أن تصبح غداً حقيقة كاملة، في حال فتح ملف النزاع حول السيادة على مدينتي سبتة ومليلية. كما استخدم الحزب الإسباني ترانيم الدفاع عن حقوق الإنسان لجلب البرلمان الأوروبي الى دعوته لتشكيل لجنة تحقيق في أحداث العيون من منطلق أن أحد ضحاياها يحمل الجنسية الإسبانية، فإن مسيرة الدارالبيضاء استخدمت أسلوباً مضاداً في إبراز ان ما يجمع الشعبين المغربي والإسباني أكبر من اختزاله في عناوين الخصومة والعداء والتشنج. وفي مقابل ذلك فإن المركزيات النقابية التي هددت بشن إضراب عام في كل المؤسسات الاقتصادية والتجارية التي يملكها رعايا اسبان في المغرب، عاودت النظر في الإجراء، من منطلق انه كان مجرد تلويح بأن المصالح المشتركة تحتم ضبط النفس والإذعان لمنطق التعايش بين بلدين جارين. من غير الوارد، على رغم كل الأزمات الناشئة بين مدريدوالرباط ان يولي المغاربة وجوههم في اتجاه آخر. ففي الشرق يتوقف النظر أمام سريان إغلاق الحدود البرية، وفي الجنوب تستمر مضاعفات قضية الصحراء، غير ان التطلع شمالاً يصطدم بدوره بتداعيات هذه الأزمات. والحال ان الإسبان كما الأوروبيين يدركون أن امتدادات مصالحهم في اتجاه أفريقيا تمر حتماً عبر التطبيع الكامل مع بلدان الشمال الأفريقي. قد يكون صعباً على الحزب الاشتراكي الإسباني ان يتفرج على هذه المواجهة المفتوحة بين المغرب وغريمه الحزب الشعبي. غير ان الورقة المغربية لم تفارق خيال النخب السياسية الإسبانية. يعود ذلك الى الرصيد التاريخي المشترك، والذي انطبع بالحروب الدينية والمواجهات العسكرية. وفي الوقت ذاته بانفتاح وتعايش حضاري قل نظيره. والسؤال المطروح: لمن تكون الغلبة في صراع يراوح مكانه؟ الأرجح ان منطق الحروب ولى، إلا ان منطق التعايش على ضفتي البحر المتوسط لا يبدو خالياً من المشاحنات والمعاكسات. وكم يتطلب الموقف من تأمل في الصورة، للإقرار ان في إمكان هذين البلدين ان يتعايشا على رغم كل المرارات والصدامات؟