تكونت سوريتي في الثلاثين سنةً الأولى من عمري، مثل أي سوري ينمو في العاصمة دمشق، أو مثل أي دمشقي رمادي مُعلق من قدمه اليمنى في سقف سجن كبير، في انتظار عقابه القدري المقبل، موعوداً إما بنار جحيمية لاهبة أو بجنة الفردوس. كنت أبحث عن معنى أن أكون لاجئة فلسطينية في منزل، في مركزِ مدينةٍ، ملحّة ومتهمة بالتجارة في نسيجها الاجتماعي الأولي السطحي. لم أجد أي رابط بصري أو فكري واقعي مع فلسطينيتي، سوى أبٍ وأم (من مدينة صفد) غادر أحدهما فلسطين ماشياً على قدميه طفلاً في نكبة عام 1948، ليصل إلى حي اليهود في شارع الأمين بدمشق القديمة، في حين وُلد الآخر بعد عامين من النكبة في طريق ريفي، قبل أن يستقر في حي الأكراد بركن الدين في دمشق. لم تُعلَّق على جدران غرف منزلنا الدمشقي الصغير صور أو لوحات لأي رمز وطني، بشري أو مكاني أو ديني، كما في المخيم الفلسطيني على أطراف دمشق، في حين أتذكر أنني استفقت فقط على رسم زيتي للقديس مار جرجس، وسألت طويلاً: من هو؟ من دون أي إجابة واضحة. كنت أبتعد عنه، لأكمل هربي الفلسطيني من نظرات امرأة لوحة «الجوكندا» المنسوخة، تلاحقني بأبعاد فوتوغرافية، إذ كلما تحركْتُ نظرَتْ إليَّ. أخاطبها: من أنت؟ وتجيب: من أنا؟ ما من جواب في دمشق سوى أجوبة مُهدئة. يقابلك جامع، يتبعه مركز ثقافي مُمِل، تتبعه نقطة أمنية ومركز استخباراتي . ويلحق بالجميع فقرٌ غير منطقي، يسحقنا جميعاً لنكون مادة لزجة تحت أقدام الطغاة. وحدها حدائق دمشق كريمة وآسرة في لطفها، قالتْ لي أمي مرةً إن «من ينظر إلى الأشجار ويشرد، كان في السابق يُعتقَل، ولاسيما إن كان رجلاً بلحية. يُشكُ في أنه سيُفجّر الأشجارَ ونفسه». كانت أمي تقصد خالي. بتُّ امرأة وأحببت رجلاً ذا لحية، لذا لمْ يُخِفْني النظرُ إلى الأشجار ثم إلى البط في حديقة السبكي بحي الشعلان. كنت أحب الشرود وحسب، في مكان لا تفعل فيه سوى ما يريده الآخرون. كلنا في النهاية كنا نفعل ما نريد، ونتمتم بالحرية، لكنني بقيتُ أهمس حين أتحدث في السياسة، حتى لو كنت في أقصى الغرب. وأكره السياسة وتكرهني، لأن لصاً أخبرني مرة: إن السياسيين يجمعون اللصوص الصغار تحت الأرض ويتركونهم ليكبروا، ثم تخرج رؤوسهم من فتحة في تجويف دائري أرضي، رؤوس ضخمة ومكررة لأسئلة حمقاء. قالت لي صديقتي في مدرستي الابتدائية «زهرة المدائن»، بحيّ المزرعة: «إن الحكومة تعرف ما ستطبخ أمي اليوم!»، فقلت بتلعثم: «أمي لن تطبخ في هذه الظهيرة، لأن نقود أبي سرقتها جدتي». لم أستيقظ كفلسطينية إلا بعد لجوئي الثاني، حينها أمسكتني بيروت من قدمي اليسرى ثم نفضت جسدي من خُرْدَوات العقود الثلاثة، وتركتني بعدها مرميةً أرضاً في اعتقال موقت. ممنوع الذهاب إلى أي دولة في العالم من دون تأشيرة، ممنوع السفر ثم العودة إلى لبنان المُكبَّل. مراجعة الأمن العام كل ثلاثة أشهر، وانتظار التجديد بعد كل تجديد، هو ما كنت أفعله هناك، تجديد لوجودي الفلسطيني لا ينتهي، تجديد مؤرشف، تجديد إقامة، وتجديد الأساليب البعثية المعتادة. كل فلسطيني سوري في بيروت يُحمَل موقتاً عليه أن يُهرَع إذا باشر الرنين إلى نقطة التفتيش والتمحيص. مرةً هربت إلى البحر من تجديدي الآتي، فخبّأني وقال: لا بحر في بيروت، قلت لرجل الأمن الأخير، وهو يفكر في توقيفي في المطار: أودعكَ، وأدعو الله أن أعود إلى لبنانك. لكن لبنان هو الدولة الوحيدة التي فتحت الباب للفلسطيني السوري في البداية، حتى لو كان على هذه الشاكلة، باباً مُوصَداً من الداخل على مَنْ يأتي من الخارج، خندقاً للبقاء الموقت، يجعل الفلسطينيَ السوري المشاكس المعارض والكارثي، أينما حل، مشرّعاً أمام مخاطر تتعدى أنثروبولوجيته في اللجوء، وسوريته في كليته الوطنية، فهو يعيش الثورة ثم القصف ثم الموت. الأهوال حوله، وإذا عُدَّتْ على أصابع أيدي أطفال الحجارة فستزيد عليها. يُجرَّد الفلسطيني السوري من حقيبته وما فيها من حجارة لدى وصوله إلى لبنان، حقيبة نفخها نظام البعث سابقاً، وهي في كل الأحوال، حقيبةٌ لِلُجوءٍ وهمي، ليس فيها سوى هواء فاسد وحجر واحد، سيُضرَب به لاحقاً رأسُ اللاجئ في مرتِه الثانية ليصحو، يصحو وحيداً، والناس سُكارى. إن النكبة السورية وقعت بعد ثورة الشعب في العام 2011، والعالم يتفرج على قتل السوريين إثرها، تماماً كما تفرج في نكبة عام 1948 على سادية وعنصرية، لا تخلوان من مازوشية استعراضية مفتعلة للاحتلال، وما دامت سورية قد أصبحت قضيةً، فلِمَ يُغلِق العالمُ الأخرق ملفها؟ علامَ يعتاش؟