حين كان يسأل المصري الصغير عن العمل الذي يود أن يقوم به حين يكبر، كان أول ما يفكر فيه الأولاد هو أن يكون ضابط جيش ليحمي حمى الأمة العربية ويحارب إسرائيل، أو ضابط شرطة ليلقي القبض على اللصوص ويضمن أمن المواطنين وسلامتهم. وكانت البنات يتأرجحن في أحلامهن المهنية بين المدرسة لتكون مثل «أبلة نادية معلمة العلوم التي ترتدي ملابس جميلة» أو «مس منى معلمة اللغة الإنكليزية التي تتحدث لغة لا يفهمها سواها»، وربما تختار الصغيرة أن تشطح بخيالها بعيداً لتكون طبيبة توليد كي تلعب مع الصغار، أو طبيبة أسنان كي تخلع الضروس التي أكلها السوس. وتغيرت الأوضاع وتبدلت الأحوال، وانصرف نظر كثيرين عن حكاية الضابط الذي سيحمي حمى الأمة، ربما لأن شرور الأمس هي مصالح اليوم، كما تراجعت رغبات آخرين عن حلم العمل في مهنة ضابط الشرطة، بعد ما تغيرت صورة الضابط من شخص يخدم الشعب إلى شخص يخشاه الشعب. وتبدلت كذلك رغبات البنات وأحلامهن المهنية، فالطبيبة ستهدر خيرة سنوات شبابها في المذاكرة وستجد نفسها في نهاية الأمر تقف على سلالم نقابة الأطباء مطالبة برفع الحد الأدنى لأجر الأطباء من 380 جنيهاً إلى 500 جنيه. ربما يبقى حلم المعلمة باقياً من أجل الدروس الخصوصية، لكن الأكيد أن الأحلام المهنية تغيرت كثيراً. وإذا كان المركز القومي للتقويم التربوي قد حذر غير مرة في السنوات القليلة الماضية من ظاهرة تحول الطلاب والطالبات المصريين بعيداً من مجال الدراسات العلمية، حتى وصلت نسبة الطلاب الذين يختارون التخصص العلمي 28 في المئة فقط، في مقابل 72 في المئة للتخصصات الأدبية، فإن حتى هذه التخصصات الأدبية صارت أكثر تحديداً. فالأعداد الكبيرة من الطلاب والطالبات التي تقف على أبواب كليات الإعلام تؤكد أن دراسة الإعلام صارت هي صرعة العصر. «الحياة» التقت عدداً من الطلاب والطالبات في الصفين الثاني والثالث الثانوي وسألتهم عن رغباتهم الخاصة في الدراسة الجامعية، فوجدت شبه إجماع حول الرغبة في دراسة الإعلام بشتى تخصصاته. تقول ماجي (16 سنة) انها تحلم بالعمل في التلفزيون. وعلى رغم أن خطة العمل أو محتواه ليسا واضحين لديها تماماً، فإنها تحلم بقدوة ما. «نفسي أكون منى الشاذلي! كل الناس تحبها وتثق فيها. كما أنها جميلة جداً ومشهورة ربما أكثر من كثيرين يعملون في السياسة». وتكررت هذه الأمنية كثيراً على ألسنة الفتيات من دون تقديم صورة واضحة عن ماهية العمل الإعلامي الذي يخططن له. كذلك الحال بالنسبة إلى الطلاب الذين عبر بعضهم عن رغبة في أن يعمل مثل محمود سعد تارة ومعتز الدمرداش تارة أخرى وعمرو أديب تارة ثالثة. فالعمل التلفزيوني يقدم لهم المعادلة الذهبية وقوامها الشهرة والمكانة الاجتماعية البارزة والثراء. ولحسن الحظ يحمل بعضهم صوراً أوضح وأعمق من مجرد أن يكونوا نماذج مستنسخة من منى الشاذلي ومحمود سعد وغيرهما. عبد الرحمن (17 سنة) يقول انه يرى الكثير من الظلم والفساد في البلد، وإن الإعلام بات قوة حقيقية في محاولة إصلاح الأوضاع. «أتمنى أن أقدم برنامجاً يكشف الأوضاع المعوجة، ويسلط الضوء على الظلم الواقع على البسطاء من الناس ممن لا صوت لهم. أتمنى أن أكون صوت أولئك»، يقول. ولأن الأعداد الضخمة الحالمة بنماذج الإعلاميين الناجحين هذه الأيام أكبر بكثير من قدرة القنوات المتاحة على استيعابهم، هناك من الشباب والشابات من قرر أن يقوم بأعمال أخرى إعلامية من خلف الكاميرات. فأحلام الإخراج والتصوير والمونتاج والإعداد والغرافيكس والإعلان كثيرة أيضاً، لا سيما بين الشباب الذين يتمتعون بمقدار أكبر من الواقعية. ليس هذا فقط، بل منهم من يخطط لدراسة التخصصات التقنية والعمل في القنوات الفضائية العربية. مايكل (17 سنة) يؤكد أن الفرص ستكون متاحة بشكل كبير في القنوات الفضائية العربية الكبرى والتي يتطلب العمل فيها دراسة متخصصة وكفاءات عالية. لذلك فهو ينوي دراسة التصوير التلفزيوني في إحدى كليات الإعلام في الجامعات الخاصة، لأنها – على حد قوله – تعرف متطلبات السوق، وتؤهل طلابها للعمل في القنوات الكبرى عقب التخرج. وعلى رغم ذلك، تبقى نماذج الإعلاميين الذين سطعوا سطوع الشمس من خلال البرامج الحوارية وال «توك شو» على رأس الأسباب الرئيسية التي تجذب آلاف الشباب والشابات نحو ميدان العمل الإعلامي. فالنموذج الناجح لعشرات المقدمين والمحاورين الذين أصبحوا أشهر من نار على علم موضوع نصب أعين الشباب المقبل على الدراسة الجامعية. ويتسع هذا النموذج الناجح ليشمل مذيعين آخرين لا تقتصر صورتهم فقط على مناصرة الفقراء وكشف الظلم والفساد، بل تتضمن ايضاً الإعلامي صاحب الصوت المسموع في مجال الرياضة، لا سيما كرة القدم والقادر على تحريك الجماهير من خلال برنامجه المسموع والمرئي. وهناك كذلك مقدمو البرامج الدينية الذين يحظون بنسب مشاهدة، ومن ثم شعبية عالية جداً، وبالتالي مكاسب مادية يمكن وصفها ب «الخيالية». وإذا كان جانب غير قليل من أحلام الجيل الحالي من الشباب في مصر يدور في فلك برامج ال «توك شو» والبرامج الحوارية، فإن الوضع قد يتغير بعد فترة طالت أم قصرت. فقد تستنفد مثل هذه البرامج الغرض منها، وقد يتم إسكاتها إن زاد هامش التهديد الصادر عنها للنظام القائم. وهنا ستظهر أحلام مهنية جديدة، وربما تعود أحلام زمان، وتعاود أحلام الطب والهندسة الظهور، إن صلحت أوضاعهم.