لا تبدو الأفكار واضحة في الأروقة السياسية العراقية حول شكل وحدود صلاحيات «المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية» الذي أُعلن تأسيسه مبدئياً في إطار توافقات أربيل حول تشكيل الحكومة العراقية، لتمنح رئاسته في شكل حصري الى زعيم «القائمة العراقية» أياد علاوي ولموسم برلماني واحد فقط. وعلى رغم ان الحديث عن المجلس الجديد يتم استخدامه في شكل لافت في نطاق المناورات السياسية المعتادة بين الفرقاء العراقيين، فإن البحث في إيجاد مؤسسة تعنى بما هو معلن من تخطيط للاستراتيجيات العليا للبلاد في المجالات المختلفة وحل المشكلات الرئيسة التي تعيق التحول الديموقراطي وإعادة تعريف مفاهيم المصالحة والمواطنة وشكل الحكم، سيبدو باعتباره مهمة ملحّة للفترة المقبلة في حال كانت النيات معقودة بالفعل لتحقيق هذه الأغراض. السجالات التي انطلقت حول صلاحيات مجلس السياسات والتي تعود أساساً الى بداية اقتراحه قبل شهور، وتمتد في أصولها الى الظروف التي رافقت تأسيس «المجلس السياسي للأمن الوطني» عام 2006 بالأهداف ذاتها، تدفع الكثير من الأسئلة الى الواجهة حول حقيقة وجود ارادة سياسية جماعية للعمل على اصلاح العثرات الدستورية والسياسية والاقتصادية وأيضاً الاجتماعية التي صاحبت بناء التجربة العراقية بعد عام 2003. وبدا لافتاً ان التركيز انصبّ منذ البداية على طبيعة صلاحيات مجلس السياسيات وما إذا كانت تنفيذية وملزمة للحكومة والبرلمان أو استشارية على غرار المجلس السابق، كاستمرار للخلاف حول الأسس والثوابت في العراق ولحالة انعدام الثقة بين الأطراف وتقاطعها حول توصيف مستقبل البلد. وفي غياب امثلة للمقارنة على مستوى التجارب الديموقراطية، فإن إقرار عمر «مجلس السياسات» بفترة انتخابية واحدة قد يكون ضمانة لمنع الانحدار الى تأصيل نظام الحكم الاوليغارشي الذي يعد عملياً الأقرب الى توصيف الوضع العراقي لجهة حكم أقلية تطرح نفسها باعتبارها ممثلة لتخندقات مذهبية ودينية ومستمرة في شغل هذا الدور وتكريسه منذ ما قبل 2003 وستكون حاضرة في مجلس السياسات الذي يفترض تكونه من 20 عضواً يمثلون الرئاسات الثلاث وزعماء الكتل والوزراء الأمنيين ورئيس اقليم كردستان. وفي نص الوثيقة الأولية التي يتوقع تعديلها، يكون للمجلس أمين عام أو رئيس يتفق عليه من ضمن الرئاسات العليا في البلاد (رئيس الجمهورية ونائباه، رئيس الوزراء ونوابه، رئيس مجلس النواب ونوابه) قبل الشروع بتشكيل الوزارة. وتكون له سكرتارية كاملة ومقر عام ولواء رئاسي إسوة بالرئاسات الثلاث وموازنة مستقلة وهيئة مستشارين تضم عشرات الاختصاصيين، كما انه يلزم الوزراء كل حسب اختصاصه بحضور الاجتماعات اللازمة في حقول اختصاصهم (كما هو حضورهم في مجلس الوزراء) على ألا يتناقض ذلك مع عملهم في مجلس الوزراء. لكن كل تلك الامتيازات التي ستخضع لجدل برلماني شديد لا تعد أساسية بالمقارنة مع الأهداف التي على المجلس الاضطلاع بتحقيقها ومنها «بلورة رؤى مشتركة ومسؤولة في إدارة الملفات الاستراتيجية في مؤسسات الدولة العليا في القضايا الاقتصادية والسياسية والأمنية والخدمية والطاقة وغيرها» و «وضع جدول زمني بالأولويات الوطنية ومتابعة تنفيذها وفي مقدمها استكمال متطلبات إخراج العراق من البند السابع» و «تحديد قائمة بأولويات القوانين وتشريعها من طريق مجلس النواب بما يحقق تطبيق الخطط والأهداف الاستراتيجية». هناك أيضاً «تقويم منظومة التشريعات والقوانين النافذة من اجل تشخيص مواطن التعارض الحاصلة في تشريعات الدولة العراقية في مراحل تاريخها وإلغاء القوانين والقرارات والتعليمات الصادرة في عهد النظام السابق والتي تتعارض مع المصلحة العامة وبالتنسيق مع السلطة التشريعية» و «وضع ضوابط ومعايير علمية دقيقة تضمن تحقيق الانسجام بين تخصيصات الموازنة العامة وأولويات الخطط والبرامج والأهداف الاستراتيجية» و «التوصل الى رؤية مشتركة في ما يخص التعديلات الدستورية» و «تقويم أداء السلطة القضائية بما يحقق غايات العدالة وضمان التزام هيئاتها بمواد الدستور». ونقرأ في المسودة نفسها ان المجلس الجديد سيكون معنياً بتحديد مفهوم «المصالحة الوطنية» ووضع الخطط لتحقيقها، كما انه سيكون ملزماً بتنظيم العلاقة بين العراق والمجتمع الدولي و «تنظيم أمور الأمن الداخلي والأمن الخارجي بما يضمن استقرار العراق وقدرة الدولة على ردع العدوان أو صدّه» وتنظيم الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة. ويمكن ملاحظة ان تلك الصلاحيات تقع قانوناً ضمن اختصاص السلطتين التشريعية والتنفيذية، فيما ان السلطتين ستكونان ملزمتين بتطبيق ما يصدر عن مجلس السياسات من قرارات في حال حازت في التصويت على نسبة 80 في المئة داخل المجلس المذكور. وتلك التوليفة التي ستشهد اعتراضات برلمانية وتعقيدات قانونية وإجرائية تتطلب نوعين من التوافقات: الأول: إقرار سياسي عام بوجود خلل كبير في العملية السياسية العراقية وهيكلية الحكم وآليات إصدار القرار وتنفيذه، ما تطلب إقرار ما يشبه المجلس الانتقالي تكون مهمته إعادة التأسيس وفك الاشتباكات في الصلاحيات والاختصاصات. والثاني: الاتفاق على آليات الإصلاح السياسي المستقبلي ليتحول النظام الى نظام حكم دائم. ويبدو ان مثل هذه التوافقات غير موجودة، لا على مستوى القيادات السياسية الرئيسة ولا في نطاق البرلمان. فالحاجة الى «مصالحة وطنية» جدية على سبيل المثال يترتب عليها إقرار أولي بأن هناك سلسلة أخطاء وسياسات أحدثت شرخاً في جدار الوئام الوطني، بصرف النظر عن المسبّب في هذه الأخطاء، فيما ان التوصل الى هذا الإقرار يتطلب مراجعة لجوهر اشتراطات المشاركة في العملية السياسية وأبرزها قضية «الاجتثاث» والجيش وقوى الأمن السابقة وتعريف معايير الإرهاب وفتح الباب أمام المساواة الاجتماعية... الخ. وبعض تلك الشروط يُعد خطوطاً حمراً لدى الأطراف السياسية المؤثرة في السلطة وفي البرلمان وفي مجلس السياسات ايضاً. تلك الأجواء الملتبسة مفاهيمياً يفترض على المجلس الجديد معالجتها، لكن المتفائلين من المراقبين لا يتوقعون ان ينجح المجلس في ذلك. وتنقسم التقويمات حول المجلس الجديد الى اتجاهين يرى أحدهما ان المجلس شكل «ترضية» شخصية لزعيم «القائمة العراقية» أياد علاوي، ولا يمكن ان يؤدي أي دور منهجي في ظل نصوص دستورية صريحة تمنح صلاحيات تشريع القوانين أو رفضها الى البرلمان وصلاحيات تنفيذها الى مجلس الوزراء، والثاني يعتقد ان المجلس يمكن ان يكون أداة تنفيس توفيقية للأزمات السياسية المتوقعة، ويعتبر اجتماعات اربيل التي حسمت قضية تشكيل الحكومة شكلاً للدور المتوقع الذي يمكن ان يضطلع به المجلس للسنوات الثلاث المتبقية من عمر الدورة الانتخابية الحالية. لكن علاوي الذي لم يبدُ عليه الرضا الكامل من صفقة تشكيل الحكومة كرر في تصريحات أخيرة رفضه منح المجلس دوراً هامشياً، واعتبر قياديون مقربون منه ان المجلس الجديد يشكل جوهر اشتراطات «العراقية» للاستمرار في الحكومة على ان يقوم بدور فعال في وضع الخطوط العامة لإدارة البلد. وفي المقابل، كانت تصريحات المقربين من المالكي واضحة في رفض منح المجلس الصلاحيات التنفيذية التي تطالب بها «العراقية». وعلى المستوى العملي، فإن الحصول على غالبية 80 في المئة (16 من 20 عضواً) لتمرير قرارات المجلس تعد مهمة معقدة وصعبة التحقق، خصوصاً ان الأطراف الثلاثة الكبرى، «التحالف الوطني» و«العراقية» و «الائتلاف الكردستاني» ستحرص على ألا يكون تمثيلها في المجلس اقل من 25 في المئة. وهذا «الربع المعطل» يمكن على المستوى الإجرائي ان يفرغ المجلس الجديد من فحواه. فيما يتوقع ان ينيب أعضاء المجلس بدلاء عنهم لحضور جلساته. وأغلب الظن ان المتخوفين من المجلس الجديد لا ينصبّ قلقهم على الدراسات والأفكار التي ينبغي عليه تقديمها لتقويم العملية السياسية، بقدر عدم رضاهم من إسهام المؤسسة الجديدة في الإبقاء على اياد علاوي كشخصية كادت في الشهور الماضية تخطف منصب رئاسة الحكومة في نطاق الدور الحيوي إعلامياً وسياسياً. وهذا القلق بحد ذاته يعكس حالة الانفصام العميقة التي يعانيها الوسط السياسي العراقي الذي يبدو غالباً مفتقراً الى لغة حوار وثقة مشتركة ومتمسكاً بفكرة الإبقاء على الوضع السياسي الحالي بألغامه الكثيرة على المدى الطويل. ف «شخصنة» مؤسسة يمكن ان تعيد رسم مستقبل العراق وأولوياته الاستراتيجية كما هو الحال في طروحات كتلة علاوي، سيترتب عليها شحن الخلافات السياسية بدلاً من إذابتها، فيما سينتج من مناصبة العداء لهذه المؤسسة حتى قبل ولادتها كما يُقرأ من ردود فعل كتلة المالكي في شأنها، إضعاف لدور سياسي واعد يمكن ان يشكّل عامل دعم للحكومة بدلاً من عرقلتها. خلاصة القول ان «الشراكة الوطنية» التي أُقرت كمعيار لحكم العراق للسنوات المقبلة يمكن ان تجد متسعاً وافياً لها في «مجلس السياسات» المزمع تشكيله في حال تجاوزت (الشراكة) حدود الشعار السياسي الى الاتفاق الوطني والرغبة الحقيقية في الاصلاح، وما عدا ذلك فإن العراق سيشهد انبثاق مؤسسة شكلية وصورية الملامح تضاف الى هيكل الدولة المترهل بالمناصب والهيئات والوزرات الفائضة. وما يدعم التصور الأخير ان الأطراف المختلفة سارعت الى احتساب حصصها في الحكومة وفق معادلات رياضية وتسعيرات للمناصب وأغفلت جميعها تعهداتها بتشكيل حكومة بعيدة من المحاصصات السياسية والمذهبية. وهي التعهدات التي كان يمكن استثمارها منهجياً في نطاق تحقيق الموازنة المتاحة بين حكومة متجانسة يتحمل الطرف الذي يشكلها، أياً كان، مسؤولية أفعالها بالكامل، وبين مؤسسة «مجلس السياسات» بصلاحيات حقيقية ودستورية تتحول الى إطار عام لعمل السلطة التنفيذية وصمام أمان لضمان وضع استراتيجيات عليا ومسارات عامة تنفذها الحكومة على ان يكون الطرفان مسؤولين بالتضامن أمام السلطة التشريعية بدلاً من تحويلهما الى خصمين. ف «الشراكة» يمكن ان تعرف بمعزل عن «المحاصصة» لو توافرت الارادة السياسية الحقيقية لها، وأُزيحت المخاوف والشكوك المتبادلة من طريقها.