«اجتثاث الستالينية»، عنوان مرحلة جديدة في السياسة الروسية، بدأها الكرملين أمس، بتدشينه مشروعاً ل»تخليد ضحايا النظام الشمولي»، تزامن مع إقرار مجلس الدوما (البرلمان) بياناً «تاريخياً» يعترف للمرة الأولى بأن الديكتاتور السوفياتي جوزف ستالين «أمر مباشرة» بارتكاب مجزرة «كاتين» التي أسفرت خلال الحرب العالمية الثانية عن مقتل حوالى 20 ألف ضابط بولندي أسير لدى «الجيش الأحمر». وفي وقت يحمل المشروع أبعاداً داخلية تعزّز صورة الرئيس ديمتري مدفيديف بوصفه مدافعاً عن الحريات وزعيماً لليبرالية الجديدة في روسيا، فإن أبعاده الخارجية أكثر تأثيراً واتساعاً، إذ تمرّ من توسيع التعاون مع واشنطن إلى إصلاح ما خرّبته السنوات الأخيرة في علاقات روسيا مع بلدان «المعسكر الشرقي» سابقاً. ويبدو أن على ستالين الذي أدى دوراً مفصلياً في بناء الاتحاد السوفياتي، وظل اسمه دائم الحضور بعد مرور نصف قرن على وفاته، أن يدفع ثمن فاتورة تحوّل المزاج والسياسات في روسيا المعاصرة. وأعلن الكرملين أخيراً، أن شعار «إزالة آثار الحقبة الستالينية» سيصبح العنوان الأساسي للمرحلة المقبلة، وهذا هو المحور الأول على جدول أعمال الاجتماع المرتقب ل»مجلس حقوق الإنسان» بتشكيلته الجديدة، والذي سيرأسه مدفيديف منتصف كانون الثاني (يناير) المقبل. الناطقة الرئاسية ناتاليا تيماكوفا قالت إن مدفيديف «كشف العام الماضي موقفه السلبي من الممارسات التنكيلية لنظام الحكم الذي أداره ستالين»، اذ اعتبر إن «من غير الجائز تبرير جرائم النظام». ونشرت وسائل اعلام روسية تفاصيل عن مشروع «برنامج تخليد ذكرى ضحايا النظام الشمولي»، يتضمن كشف كلّ وثائق العهد الستاليني، ونبش قبور الضحايا وإقامة نصب تذكارية لهم، وتأمين حماية اجتماعية للضحايا الأحياء، وإصدار قوانين أو قرارات رئاسية تحظر تمجيد الستالينية. وكانت الحملة على ستالين بدأت منذ شهور، مع احتدام جدل ساخن حول رفع صوره خلال احتفالات روسيا بذكرى النصر على النازية. وانقسمت النخب الحاكمة، بين معارض اعتبر أن «الوقت حان لنبذ تراث الحكم الشمولي»، ومؤيد أكد ضرورة عدم تجاهل دور ستالين في التاريخ الروسي. وأسفر ميل الكرملين إلى الطرف الأول، عن غياب صور ستالين واللافتات والأعلام الحمر عن الاحتفال، للمرة الأولى منذ النصر. وفتح هذا المكسب «شهية» المجموعات الليبرالية التي اعتبرت أن دعم مدفيديف يعني ضرورة رفع سقف المطالب، فجاءت النتيجة بداية في تعديل مناهج التاريخ، لتسقِط الكتب الجديدة دور ستالين وتلعنه بأقذع الشتائم. ثم برزت فكرة اعداد مشروع ضخم لتخليد «ضحايا النظام الشمولي»، رأى معارضون أنه يقدم هدية مجانية للغرب، ويلحق ظلماً بتاريخ روسيا، فيما اعتبر بعضهم أن مدفيديف يستهدف «استثمار هذا التوجه لتعزيز ميله نحو الغرب وتثبيت صورته بوصفه زعيماً ليبرالياً مدافعاً عن الحريات». وربما أثارت الفكرة غضب الرئيس السابق فلاديمير بوتين، رئيس الوزراء الحالي، إذ أعرب ديمتري بيسكوف الناطق باسم رئاسة الوزراء عن حذر الحكومة إزاء المشروع الذي أعده «مجلس حقوق الانسان» التابع للكرملين، اذ «لا يجوز محو تاريخ البلاد أو تحريفه». وانضم مجلس الدوما أمس إلى الحملة على ستالين، بإصداره بياناً يقرّ للمرة الأولى بمسؤولية الزعيم السوفياتي عن مجزرة «كاتين» التي ارتُكبت عام 1940. وكانت الرواية التاريخية السوفياتية تحمّل دوماً مسؤولية المجزرة الى الجيش الألماني الذي احتل المنطقة الواقعة قرب الحدود مع بيلاروسيا. وأورد البيان الذي أقره الدوما ان «المواد التي بقيت على مدى سنوات حبيسة الارشيف السري، ونُشرت الآن، لا تظهر حجم تلك المأساة الفظيعة فحسب، بل أيضاً أن جريمة كاتين ارتُكِبت بأمر مباشر من ستالين وعدد من القادة السوفيات». وأشار البيان الى «تعاطف عميق مع ضحايا هذا القمع غير المبرر»، معرباً عن الأمل بأن يؤدي هذا «الاعتراف» دوراً في تعزيز العلاقات مع الدول المجاورة لروسيا في «المعسكر الشرقي» سابقاً. ورفض الحزب الشيوعي تأييد البيان، وحاول من دون جدوى إزالة اسم ستالين، مؤكداً أن «ما يجري محاولة جديدة لتزوير التاريخ». كما اعتبر أن الوثائق التي ورد ذكرها «حُرِّفت عمداً». في وارسو، اعتبر رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان البولندي اندري هاليكي بيان الدوما اختراقاً، معرباً عن «سعادته لمسيرة المصالحة والحقيقة» مع روسيا. لكن ياروسلاف كاتشينسكي رئيس حزب «القانون والعدالة» المعارض، أصرّ على ان تقدّم روسيا اعتذاراً كاملاً وتعويضاً. على صعيد آخر، أعلن بوتين أنه سيقرر مع مدفيديف، هل سيخوض انتخابات الرئاسة عام 2012. وقال: «سننظر في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ونتخذ قراراً توافقياً يصبّ في مصلحة البلاد».