تحت عنوان «140 عاماً من التنوير»، احتفل مفكرون وباحثون عرب وغربيون بذكرى إنشاء المكتبة الوطنية (الكتب خانة) في قلب القاهرة، بعد «تجديد المبنى الذي يضم آلاف المخطوطات واللوحات والبردى من عصور مختلفة». على مسافة ليست بعيدة من الاحتفال ب «التنوير المتجذر والكتب خانة»، كان يدور احتفال من نوع آخر: مواجهات بين الشرطة وأقباط، كانوا يحتجون على منعهم من توسيع مبنى كنيسة. من دون الدخول في تفاصيل الخلافات بين النظام المصري والكنيسة القبطية، أو بينها وبين الإسلاميين حول بناء الكنائس، ومن دون أن نغوص عميقاً في فلسفة الأنوار، أو نعود إلى مونتيسكيو وديدارو وروسو، وصولاً إلى الثورة الفرنسية، والماركسية وثورتها العالمية. ومن دون أن نقارن بين الأنوار الأوروبية، وعصر النهضة العربية، نكتفي ببعض الملاحظات السريعة كي نرى مدى بعدنا عن الأنوار. كان منطقياً أن يؤدي انتقال «الأنوار» من فرنسا إلى مصر والعالم العربي إلى ظهور أنظمة سياسية، على أساس القيم الإنسانية التي أنتجها ذاك العصر، وزعمت الدول الاستعمارية كاذبة أنها إنما استعمرتنا لنشرها في مجتمعاتنا المتخلفة فكان استبدادها أشد وطأة من الاستعمار العثماني. بعد رحيل الاستعمار عن مصر والدول العربية، نشأت أنظمة وطنية أطلقت ديناميات عابرة للطوائف والمذاهب، لكنها ما لبثت أن عادت إلى ممارسة القمع، وتحولت إلى أنظمة عسكرية لا هم لها سوى المحافظة على بقائها في السلطة فعمت فوضى الانقلابات و «الثورات»، مرة باسم التقدم، ومرات باسم الدين. أي أننا انتقلنا من الليبيرالية النسبية المشوهة بعد الاستقلالات إلى المذهبية والطائفية والقبلية. من نضال الجميع ضد الاستعمار إلى الحروب الأهلية. من التسامح والمواطنة إلى التعصب والانغلاق. من البحث عن أساليب التقدم إلى تبرير التخلف والركون إليه. من الثورة على الاستعمار إلى الرضوخ لكل مطالبه والاستعانة به لتسوية خلافاتنا التي لا تحصى. من الحلم بتوزيع الثروة إلى خدمة طبقة جديدة حلت مكان الإقطاع. عصر الأنوار هو عصر الثورة على الغيبيات، عصر فصل الدين عن الدولة وتكريس القانون، والابتعاد عن أحكام الكنيسة وتسلطها باسم الدين. بعد 140 سنة على الأنوار في بلادنا، نرى العودة إلى ما قبل القرون الوسطى هي السائدة، فكراً وممارسة، وترانا نعيش الماضي بكل تفاصيله، في حياتنا اليومية، وفي تطلعاتنا إلى المستقبل. ما زلنا ننظر إلى المسيحيين كجالية صليبية. وما زالوا ينظرون إلى مواطنيهم الآخرين بريبة وخوف من الدعوات إلى العودة للماضي. من ثورة بن لادن العالمية إلى ثورة الحوثيين في اليمن. بعد 140 سنة على الأنوار فشلت كل الأنظمة في خلق المواطن. خلقت تابعاً وليس فرداً حراً. أصبحت السلطة هي الوطن. من يعارضها خائن. لا تخدم إلا نفسها والطبقة الحاكمة الأبدية. البعثات الديبلوماسية والمؤسسات الدولية تتدخل في كل الشؤون، من الانتخابات إلى رفع الدعم عن المواد الغذائية، إلى تعيين المسؤولين والوزراء، إلى المناهج المدرسية، إلى حماية الأقليات. احتفلت مصر بمرور 140 سنة على الأنوار. واحتفل اللبنانيون قبل أيام بعيد الاستقلال. استقلال «بلد الإشعاع»، ما زالت فيه الطائفية والمذهبية أساس النظام المتخلف. يدافع عنه مثقفون وباحثون ورجال دولة، نظام خاضع لكل الإرادات إلا إرادة مواطنيه. على حدوده أكثر من عشر قوى عسكرية لحماية إسرائيل. قضاؤه مستباح. أمنه مستباح. ترابه مستباح. طبقته السياسية شكلتها الحروب الأهلية. طبقة لا تريد الخروج من تلك المرحلة. تختلف في ما بينها على من هو العدو ومن الصديق. ترحب بكل من يتدخل في شؤونها بكل اللغات (خوش أمديد، هوش غيلدن، ني هاو، welcome ،bienvenue إلخ). بعد 140 سنة على الأنوار ما زلنا في مرحلة القرون الوسطى الأوروبية لكننا نحتفل في قاعة مغلقة بهذا الحدث العظبم. وما أن نخرج إلى الشارع حتى نشترك في موجات القمع التي لا تنقطع. وندعم مؤسسات رسمية تمنع كتباً لطه حسين، وتحرم علي عبد الرازق، وتنقح ألف ليلة وليلة.