لئن وهب الله الإنسان نعمة النسيان والزجّ ببعض ما يحدث له في حياته من مواقف وأحداث خلف الذاكرة و الاستمرار في العيش على الأرض بشكل طبيعي، فقد وهبه في المقابل نعمة التذكّر وتسجيل كل ما يرسخ في ذهنه خصوصاً تلك الأحداث أو الكوارث التي تمرّ على أشخاص ومجتمعات معينة يصعب نسيانها؛ فتظل الذاكرة تحتفظ بها وبما خلَّفته من مآس ومواقف بائسة، تماماً مثلما هي الحال مع سكان مدينة جدة وبالتحديد أبناء حيّ قويزة المنكوب بفعل كارثة الأربعاء الأسود العام الماضي، بعد الهجوم المباغت للسيول المدمرة التي ابتلعت الكثير من الممتلكات والأرواح إثر سقوط الأمطار الغزيرة على هذه المدينة، وتغيير ملامح بعض الأحياء الواقعة في شرقها. ولو لم يكن للحدث سوى التهام الممتلكات فقط، لكان البعض أرغم نفسه على نسيان ذلك والاستمرار في الحياة كبقية الناس، لكن ما حدث كان متجاوزاً للمألوف ومفاجئاً لسكان العروس فقد مارست السيول مختلف الوخزات فأتت على الأرواح البشرية قبل الأحياء السكنية، والذي فقد أحد أبنائه ليس أحسن حالاً ممن فقد أسرته بالكامل، ولا تزال الذكريات حديث السكان فيقول فواز الحربي: «إن ما حدث كان أكبر من أن يحتمله عقل، وأذكر أنني كنت نائماً في الصباح ولم أستيقظ إلا على صراخ الناس في البناية التي أسكن فيها وتسلل المياه إلى شقتي في الدور الأرضي وبلوغه قرابة المتر ولم أفكر في شيء سوى إنقاذ أبنائي والصعود إلى سطح المبنى، لقد فقدنا في ذلك اليوم مؤذن المسجد وجارنا أبو ممدوح ولا نقول إلا رحمهما الله». ولا يختلف محمد الأسمري عن الحربي في تذكّر ما حصل فيقول: «كان ركام السيارات وسقوط بعض المنازل الشعبية وغرق بعض أفرادها منظراً مأساوياً لا يُرى إلاّ في الأفلام السينمائية، فالذي يعيش في مناطق جافة لا يعرف مثل هذه السيول، لقد كان يوماً حزيناً واستمرت الفاجعة لأشهر والناس غير مصدقين، وأنا أحد الأشخاص الذين فقدوا بعض الممتلكات والحمد لله على قضائه وقدرهً». «كيف تريدني أن أنسى وقد فقدت زوجتي في ذلك اليوم» بهذه العبارة المؤسفة يتساءل محمد بن سالم: «ليس لدي اعتراض على أقدار الله لكن نسيان ذلك اليوم يصعب عليّ فقد فقدت شريكة حياتي هكذا بين ليلة وضحاها، في الصباح الباكر خرجت لأبحث عن أضحية العيد وكانت السماء ملبدة بالغيوم وسيارات جيراني أمام منازلهم والخباز يصطف عنده الناس وبدأ المطر يتساقط، لكن بعد عودتي لم أستطع دخول الحي والاتصالات مقطوعة وطريق الحرمين السريع مغلق ولا أعلم ما الذي حدث واضطررت إلى إيقاف سيارتي بعيداً عن حي قويزة وصعدت الجبل على أقدامي وسألتُ ؛فجاءني خبر السيول وانطلقت إلى موقع قريب من البيت ولم أستطع الوصول إلا في العصر لأكتشف الفاجعة». وحينما سُئل فريح السلمي عن ذلك اليوم قال: «خرجت مع الناس لنرى السيل وهو يعبر أطراف حينا على سفح الجبل لكن المياه كانت في ازدياد وبدأنا نشاهد بعض السيارات وهي تتقلب في السيل والناس غير مصدقة ثم بدأنا نشاهد أثاث منازل واسطوانات غاز قادمة من حي الحرازات شرق قويزة وبعد ساعة ارتفع منسوب الماء ودخل على منازل حي المساعد وابتلع في طريقه كل شيء تقريباً». ويؤكد محمد العمري: «إنني رأيت بعض الجثث وهي في بطن السيل ولم نستطع الإمساك بها فالماء كان جارفاً والمطر لم يتوقف وبعض الشوارع شققها الماء وصدقني كان الهلع والخوف يتسلل إلى أنفسنا وبقينا لمدة ثلاثة أيام بلا كهرباء ولا اتصالات».