لا مظهر استثنائياً في مشاهد العنف في مصر، فيما يشتد وطيس معركة انتخابات مجلس الشعب (البرلمان) التي ستجرى الأحد. لا مظهر استثنائياً لأن المشرق عموماً نجح في مزاوجة «الديموقراطية» والعنف، بالتالي ابتداع الغايات التي تبرر الوسائل، ولو كانت الأدوات قبضات عالية لرفع «الصوت الحر». قد يقال ان أحداثاً «فردية» في بلدٍ لأربعين مليون ناخب من مواطنيه حق الاقتراع، ليست ذي بال، لكن ترويج سيناريوات الترويع إن لم يكن مقتلاً لوظيفة الانتخاب، فهو على الأقل ينذر بخروج المعركة من صناديق الاقتراع الى شوارع القاهرة وميادينها. ليس غريباً ان يتهم الحزب «الوطني» الحاكم جماعة «الإخوان المسلمين» من دون ان يسميها، باستفزازات والتفافات على «الشرعية»، أو يتهم اليسار الحكومة بالكذب، والجماعة بالعنف، فيما «الإخوان» يقصفون الحزب الحاكم بنعوت البلطجة ومحاولة اغتيال أحد مرشحيهم. «التجمع» اليساري يواكب شراسة المعركة بسيناريو للعصيان «يعدّه الإخوان للاستيلاء على السلطة» يوم الأحد. في مواجهة استثنائية يفترض انها الاختبار الجدي قبل شهور قليلة من فتح باب الترشح لانتخابات الرئاسة في حزيران (يونيو)، كل الأسلحة مباحة لدى خصوم «الإخوان»، لقص أجنحتهم في البرلمان. وإن كان التبرير المعلن تفادي مصر الاضطراب الصيف المقبل، بتعطيل «حيلة الجماعة» (ترشيح «مستقلين») لتحجيم حضورها تحت قبة مجلس الشعب، فالمقلق في مرحلة الشهور الصعبة أن ما كان استثنائياً عابراً بوتائر العنف، يكاد ان يصبح «عادياً» بين فترات متقطعة. هل يمكن الفصل بين توتر الانتخابات وحال الاحتقان في «ملف» الأقباط، كما تحلو لبعض الأميركيين تسميته؟ أوَتكون مجرد مصادفة «اشتباكات الكنيسة» امس مع ارتفاع حرارة الشارع، عشية الاقتراع البرلماني، وبعد أيام معدودة على «الاشتباك» الديبلوماسي بين القاهرة وواشنطن الذي تلى التقرير الأميركي حول الحريات الدينية في مصر؟ ليس امراً عادياً بالتأكيد – إذا صحت الروايات – ان يلجأ متظاهرون أقباط الى رشق قوى الأمن بزجاجات «مولوتوف»، بدلاً من حجارة، احتجاجاً على وقف بناء مركز ملحق بكنيسة. وبصرف النظر عن جوهر مطلبهم، فالحال ان تفضيلهم عنفاً أوقع قتيلاً وعشرات الجرحى، لا يمكن تبريره إلا بالسقوط في فخ المشاعر، كما لم يكن رفع لافتات في مصر في حق «النصارى» اخيراً، سوى فعل بدائي جدير بالإدانة. ثماره الكريهة في أفضل الأحوال، أعطت المصطادين في الماء العكر، مدّعي الغيرة على حقوق الأقباط في الولاياتالمتحدة، ذخيرة حيّة لبدء فصل جديد من تشويه سمعة مصر، وتطويق أي مسعى تجرّبه للانتفاض على ضعف دورها في المنطقة. وليس سراً ان «ملف» الأقباط وأحوالهم باتت سلاحاً في المعركة الانتخابية، استدرج سلاحاً آخر بتخويفهم من نيات «الإخوان» و «مخططاتهم»، لأن «الفرع لا بد ان يعود الى الأصل»... والسؤال هو ما اذا كانت مبادرات الحكم كافية لاستئصال بذور طائفية تُزرع، لها سقاتها في الداخل والخارج. ما دام الجواب سلبياً، يجدر التساؤل ايضاً عن دور كل القوى السياسية المصرية في محاصرة تلك البذور، لا استسهال الرد على شعارات بسجالات عقيمة أو مكاسب انتخابية، بينما تكفي الأصوات والقبضات التي رُفِعت خلال اشتباكات الكنيسة لاستكمال صورة لن يبقى معها أحد رابحاً. وإن كان الوجه الآخر للصورة تلك اللافتات التي تمس بالأقباط، لوَجَب استبدال وظيفة الأُذُن بوظيفة اللسان: كل الصراخ يحجب جرس الإنذار، وما حصل في حي الهرم، امام الكنيسة، لم تعد تكفي معه بيانات التغني بالوحدة الوطنية. ان أبسط واجبات الحكم والمعارضة في مصر، بعد المنازلة الانتخابية، بدء عهد حوار يتخلى عن إدمان المناكفة الرخيصة، وتحديد أولويات ترميم الوحدة، قبل ان تتمادى روح الطائفية وتتحول داءً... في منطقة باتت الطائفية والمذهبية أكبر أعدائها. وللسلطة والمعارضين الذين طالما اتهموا الحكومات بتوزيع الحصص على المنتفعين والأنصار «وكأن مصر ملكٌ لهم»، أن يتبصّروا في أسباب تآكل الدور المصري في أزمات المنطقة وأزمات افريقيا، الى الحد الذي يشجع اثيوبيا على تحدي قاهرة المعز إعلان حرب من أجل مياه النيل. جرس الإنذار: مواجهات في الداخل، ضغوط وحصار في الخارج.