قبل سنوات قليلة، كان من الطبيعي أن يعطي الأب ابنه الصغير الذي لم يتجاوز عمره سبع أو ثماني سنوات، مالاً ليشتري له علبة سجائر من دكان «عم سعيد» عند أول الشارع. ولو تبقى من ثمن السجائر شيئاً، فقد يشتري الطفل علكة على شكل سجائر كي يكون «ابن الوز عواماً». اليوم قد يفكر الأب مرتين قبل أن يُقدم على إرسال ابنه للغرض نفسه. وحتى إن أقدم على مثل هذه الخطوة، فقد يصل الصغير إلى دكان «عم سعيد» فيجده قد علّق لافتة مكتوب عليها «يمنع بيع السجائر لمن هم أقل من 18 عاماً»، وقد يجد أن «عم سعيد» قد أقلع تماماً عن بيع السجائر، مفاخراً بذلك عبر لافتة عليها «الحمد لله لا نبيع التبغ ومنتجاته». لكن بين الأمس واليوم نماذج أخرى كثيرة، فهناك من باعة السجائر من يبيع التبغ ومنتجاته لمن هم دون سن ال18، وهناك من شركات السجائر ما تروج لنفسها بطلاء واجهة محل سوبر ماركت صغير بالألوان المميزة لعلب السجائر التي تبيعها، وهناك أيضاً من يتحايل على القانون، فبدلاً من الإعلان صراحة عن هذا المنتج أو ذاك، وهو ما تم منعه بحكم القانون، يمكن الإعلان عنه بطريقة غير مباشرة من خلال أساليب عرض بالغة الجاذبية للصغار قبل الكبار. والصغار قبل الكبار، لا سيما في الدول العربية، هم الشريحة التي تضعها كبرى شركات السجائر نصب أعينها على اعتبارهم المستهلكين الجدد في المستقبل القريب. فإذا الكبار منهم من مات بسبب الأمراض الناجمة عن التدخين، وأيقن بعضهم الآخر أن التدخين يدمر الصحة فبدأ يحاول تخفيض عدد السجائر المدخنة، أو على الأقل يحاول – تحت وطأة تأنيب الضمير أو إلزام القانون – الانفراد وحيداً بسيجارته المدمرة للصحة، فإن الصغار ما زالوا ينظرون إلى السيجارة الرشيقة بين أصابع اليد باعتبارها بوابة المرور إلى عالم الكبار، أو صك الليبرالية والتمتع بالحرية الشخصية، أو على الأقل سمة شبابية لا بد أن يتحلى بها حتى يتم قبوله ضمن «شلة» الأصدقاء. ولولا الإعلانات غير المباشرة والتي تتفنن فيها شركات السجائر للتحايل على قوانين حظر الإعلان لكان أولئك الصغار يحظون بقدر أكبر من الأمان. من أجل لعبة «القط والفأر» بين شركات السجائر من جهة، والجهات الحكومية والأهلية المعنية بحماية غير المدخنين من مغبة التدخين من جهة ثانية، ومن أجل ملايين الصغار والشباب والنساء الذين باتوا الصيد الثمين لشركات السجائر، نظم كل من الاتحاد الدولي لمكافحة السل وأمراض الرئة ومنظمة الصحة العالمية، ورشة عمل في محاولة لرفع الوعي حول ألاعيب الشركات، وسبل مجابهتها، وحماية الأجيال الصغيرة والنساء من الوقوع في براثنها الكثيرة، وربما كذلك إلقاء طوق نجاة لقدامى المدخنين الراغبين في الحفاظ على ما تبقى من حياتهم. «الدعاية الآن أغلبها غير مباشر. المدخن شاب وسيم جذاب رياضي موفور الصحة، والمدخنة شابة أنيقة لها دخل مادي كبير تتمتع باستقلالية وحرية»، بحسب مدير عام صحة البيئة في وزارة الصحة المصرية الدكتور إيهاب عطية الذي يشير إلى أن كلفة عواقب التدخين في العام الواحد تبلغ نحو ثلاثة بلايين جنيه مصري. وينبه عطية إلى أنه على رغم علم المدخن علم اليقين بمغبة التدخين، يصر البعض على ارتياد جهنم في حال تصويرها باعتبارها مكاناً جميلاً وجذاباً، وهو ما تفعله شركات السجائر. ويبدو أن الجميع يتذكر بطل إعلان إحدى أشهر شركات السجائر، وهو راعي البقر الوسيم الذي عاش حياته طولاً وعرضاً، مقداماً ومغامراً، محطماً لقلوب الجميلات، بينما السيجارة عالقة في فمه، لكن قليلين جداً يتذكرون أن السيجارة وقعت من فمه حين مات قبل سنوات، ولكن على أرض الواقع وليس على أرض الإعلان، بفعل مرض سرطان الرئة. وتبدو المشكلة في أن سرطان الرئة يبقى حبيس المستشفيات وصفحات الوفيات بالنسبة للشباب والصغار المعرضين لخطر الوقوع في فخ شركات السجائر، فهم لا يرون سوى جوانب التدخين المضيئة. وتلفت المستشارة الإقليمية لمبادرة التحرر من التبغ في مكتب شرق المتوسط في منظمة الصحة العالمية الدكتورة فاطمة العوا إلى أن كثيرين من الشباب والمراهقين في مصر مثلاً يتابعون أخبار فريق كرة قدم الشركة الشرقية للدخان، والذي يشارك في بطولات الدوري والكأس لكرة القدم، وهي طريقة غير مباشرة وإن كانت بالغة التأثير، للإعلان عن التبغ. «هذا بالطبع بالإضافة إلى حملات الترويج الجذابة بين الحين والآخر من خلال اللجوء لفتيات جميلات يرتدين ملابس أحدث صيحة ويجلن على السوبرماركت والتجمعات الشبابية ومعهن عينات مجانية أو حتى هدايا ترويجية من تي شيرت وقبعات وأكواب جذابة وغيرها. هذا بالإضافة إلى ماكينات بيع علب السجائر في بعض المراكز التجارية من طريق وضع العملات المعدنية والتي يستحيل معها التأكد من سن المشتري». ويبدو أن التحايل على سن مشتري السجائر لا يقف عند الماكينات فقط، بل يحمل مسؤول مكافحة التبغ في «إمرو» الدكتور مصطفى لطفي مطوية كانت في داخل علبة سجائر ومكتوب عليها «نلبي طلبك أينما كنت! اتصل بالرقم المجاني ...» وهو يضيف أن الشبكة العنكبوتية دخلت هي الأخرى حلبة المعركة، إذ صار في الإمكان الحصول على السجائر ومنتجات التبغ الأخرى من خلال طلبها من على مواقع الإنترنت المختلفة. وإذا كان الإنترنت من أقرب أدوات الاتصال وأحبها إلى الصغار والشباب حالياً، فإن للدراما صلة وثيقة بملايين البشر لا سيما في مصر والعالم العربي. وتقول العوا: «هناك اعتقاد عربي راسخ يربط بين المحنة والسجائر. ويبدو هذا الارتباط العجيب واضحاً جلياً في الأعمال الدرامية بوجه عام، والسينمائية بوجه خاص. ثلاثة أجيال متعاقبة من ممثلي الصف الأول من أمثال عمر الشريف، وأحمد زكي، وأحمد السقا أمعنوا في تدخين السجائر في كل موقف صعب يقعون فيه، وما أكثرها». الطريف أن العوا أشارت كذلك إلى اعتبار السجائر سلعة استراتيجية في مصر، مما يعطيها صبغة قبول مجتمعي لا تستحقها. وكم من مرة طالب فيها إعلاميون وكتاب صحافيون يقدمون أنفسهم باعتبارهم مناصرين للفقراء والمساكين بخفض أسعار السجائر «لأنها السلعة الوحيدة التي تمكن الفقراء المثقلين بالمشكلات ومصاعب الحياة من أن ينفثوا دخان القرف». وتبقى الرسالة الأهم وهي حشد كل الجهود بداية من البيت ومروراً بالمدرسة والمجتمع المدني وقطاعات الأعمال المختلفة وانتهاء بمؤسسات الدولة المختلفة من أجل حماية الأجيال الصغيرة والنساء من الانضمام إلى تعداد المدخنين. ويقول الدكتور مصطفى لطفي: «شركات السجائر تقدم سلعة تفتك بنصف مستخدميها، لذا وجدوا أن عليهم بذل كل الجهود التي يضمنوا بها استمرار انضمام مدخنين جدد إلى الساحة. وعلينا نحن أن نبذل كل ما علينا لنحمي أولئك من مواجهة مصير محتوم». والسبل كثيرة، منها ما يتعلق بفرض قيود على شركات السجائر مثل طباعة التحذيرات المصورة، أو طرح علب السجائر في عبوات رمادية خالية من أي ألوان جاذبة، أو من خلال تضييق الخناق على تلك التجارة القاتلة من خلال تطبيق الحظر الشامل لكل نشاطات الإعلان عن التبغ أو الترويج له أو الرعاية التي تقدمها الشركات لنشاطات مختلفة. أرقام وحقائق - العرب ينفقون على التدخين أكثر مما ينفقون على التعليم. - التدخين سيقضي على ثمانية ملايين شخص بينهم 2،5 مليون سيدة بحلول عام 2030. - قوانين منع التدخين بصورة كاملة لم تشمل إلاّ 5.4 في المئة من سكان العالم في عام 2008. - عدد المدخنين في مصر بلغ حوالى 13 مليوناً يستهلكون ثمانين بليون سيجارة سنوياً، تمتص حوالى 22 في المئة من دخل الفرد المدخن شهرياً.