أتاحت لي إجازة عيد الأضحى زيارة سيوة تلك الواحة الهادئة شمال غربي مصر، ثم السفر إلى مدينتي الصغيرة في شرق الدلتا مروراً بالإسكندرية، وأخيراً عدت إلى المحروسة، وخلال هذه الجولة الطويلة بين بيئات مختلفة كانت الانتخابات البرلمانية المصرية مسيطرة على مشهد العيد ومختلطة به، وحاضرة في أحاديثي مع الأهل والأصدقاء، ومن دون عناء كانت كل المشاهدات والأحاديث تؤكد: أولاً: فوز مرشح الحزب الوطني الحاكم بأغلبية ساحقة، فالحزب ينافس نفسه في كثير من الدوائر حيث طرح بين ثلاثة وأربعة مرشحين للتنافس على مقعدين فقط في كل دائرة انتخابية، في سابقة تكشف عن عجز الحزب عن توحيد صفوفه وإلزام أعضائه بقراراته الداخلية، لذلك وصل عدد مرشحي الحزب إلى 800 مرشح بما يزيد عن مقاعد مجلس الشعب ال 508. في المقابل، تقدم الوفد أكبر الأحزاب المعارضة من حيث عدد المرشحين ب 205 مرشحاً، أي نحو 40 في المئة من مقاعد مجلس الشعب وجماعة «الإخوان» 135 مرشحاً، وحزب التجمع 78 مرشحاً، والناصري 43 مرشحاً، وحزب الغد 32 مرشحاً. ولا شك في أن هذا التفاوت الكبير في عدد وقوة المرشحين بين الحزب الوطني الحاكم وأحزاب المعارضة يؤكد حالة عدم التوازن في السياسة المصرية واستمرار احتكار الحزب الوطني للسياسة والحكم في مصر لأكثر من ثلاثين عاماً، وبالتالي عدم امتلاكه الرؤية والرغبة في تحسين قواعد اللعبة السياسية في مصر ودفعها نحو مزيد من المشاركة والإصلاح السياسي. ثانياً: غياب السياسة والمشاريع الوطنية الطموحة عن المعركة الانتخابية، فبرامج الأحزاب ليست سوى تمارين لغوية في الصياغات العامة التي تخلو من الأرقام والمؤشرات الدقيقة لقضايا بالغة الأهمية كالبطالة والتضخم والإنفاق على التعليم والبحث العلمي. وأغلب ما ورد في البرامج الانتخابية للأحزاب هو إعادة صياغة لبرامجها في انتخابات 2005، مع إدخال تعديلات طفيفة. ويلاحظ أن برنامج الحزب الوطني يقدم وعوداً ويطرح سياسات هي في الغالب استكمال لما هو قائم، انطلاقاً من ثقته في الفوز بالأغلبية، بينما بقية الأحزاب وجماعة «الإخوان» تقدم وعوداً بالمعارضة، أي أنها تسلم أيضاً بفوز الحزب الوطني بالأغلبية، وتطمح في الاستمرار في لعب دور المعارضة! وهي رؤية تبدو واقعية تماماً لكنها تفتقر الى الطموح السياسي الذي يبدو مطلوباً في كثير من المواقف. ولا شك في ان غياب الطموح يعني عدم القدرة على مجرد الحلم أو التمني، وربما يرجع ذلك لأسباب خاصة بتعثر الإصلاح السياسي واستمرار حالة الطوارئ والقيود المفروضة على حركة المعارضة. لكن الشاهد أن غياب الحلم أو المشروع الوطني هو سمة عامة في السياسة والحكم في الجمهورية الرابعة تسيطر على الحزب الحاكم والمعارضة وجماعة «الإخوان»، حتى وإن أعلنوا عكس ذلك. من هنا خلت كل البرامج الانتخابية من تبني مشروع وطني طموح، أو التبشير به، كما اختفت الأفكار والدعوات الراديكالية التي تقدم بدائل مغايرة للنظام القائم، إذ اختفت أو خفتت الدعوة الى الاشتراكية من برامج التجمع والناصري، وتكرر ذلك بالنسبة الى برنامج «الإخوان» في ما يتعلق بالدعوة الى تطبيق الشريعة وأسلمة المجتمع، لكن لم يختف النهج الدعوي من برنامج «الإخوان»، فأغلب القضايا التي يتطرق اليها هذا البرنامج تدعم بآية من القرآن الكريم، في توظيف سياسي يتعارض مع استخدام الدين في المعركة الانتخابية. ثالثاً: إن عدم اهتمام الأحزاب وجماعة «الإخوان» وكذلك المرشحين بطرح برامج انتخابية يعود إلى إدراكهم جميعاً أن الناخبين في مصر لا يهتمون غالباً بالبرامج الانتخابية قدر اهتمامهم بشخصية المرشح وقدرته على تقديم خدمات بل وتوزيع عطايا ومنح لأهل دائرته الانتخابية، مما يفسح المجال أمام المال الانتخابي لشراء أصوات الناخبين في بعض الدوائر، ويسمح للعصبيات الأسرية والقبلية بلعب دور حاسم في دوائر انتخابية أخرى. والمفارقة أن الناخبين لا يتساءلون عن أسباب توسع بعض المرشحين من رجال الأعمال في الإنفاق، أو أنهم يدركون هذه الأسباب لكنهم يتقبلون اللعبة. والأهم أن اللجنة العليا للانتخابات والتي حددت 200 ألف جنيه كحد أقصى للإنفاق على الحملة الانتخابية لا تتدخل وتمارس صلاحياتها القانونية. من جانب آخر، فإن كل الأحزاب وجماعة «الإخوان» لا تتوانى في اختيار مرشحين على أسس جهوية أو أسرية أو قبلية مما يغذي ظاهرة تغييب السياسة وضعف الاهتمام بالبرامج الانتخابية. رابعاً: إن غياب السياسة والمشاريع الطموحة عن المعركة الانتخابية، وحضور المال والتكتلات الجهوية والعصبية والقبلية يقودان إلى ممارسة أشكال متنوعة من العنف اللفظي والمادي في غالبية الدوائر الانتخابية، وقد وقع في الأيام السابقة الكثير من الاشتباكات التي نقلتها الفضائيات على رغم القيود المفروضة على التصوير والبث المباشر، واتهمت منظمات حقوق الإنسان وجماعة «الإخوان» قوات الأمن بالتصدي بعنف لمسيرات بعض المرشحين فضلاً عن اعتقال العشرات من أنصار «الإخوان». في هذا السياق، ثمة مخاوف من حدوث مزيد من التجاوزات والاشتباكات في الأيام القادمة وحتى الأحد المقبل وهو اليوم المقرر لعملية التصويت. وأعتقد أن هذه المخاوف لها ما يبررها في ظل فائض العنف الملاحظ في المجتمع المصري، وفي ظل غياب السياسة وسطوة المال والعصبيات، وعدم الثقة في نية الحكومة في إجراء الانتخابات في شفافية، وكذلك في ظل تسليم الحكومة ملف إدارة الانتخابات وعقد الصفقات للأجهزة الأمنية التي تواجه تحديات متنوعة تستدعي حضوراً ومشاركة أكبر لرجال السياسة سواء من الحكم أو المعارضة. خامساً: على رغم كل القيود المفروضة على الانتخابات بدءاً من التقدم بطلبات الترشيح، وحتى عملية إعلان جداول الناخبين والتصويت التي تثار حولها شكوك متزايدة، فإن هناك حيوية ورغبة حقيقية في المشاركة على مستوى الترشح، على رغم الدعوات القوية للمقاطعة، حيث بلغ إجمالي عدد المرشحين 5120 مرشحاً، وهو ما يقل بنحو 7 في المئة فقط عن إجمالي عدد المرشحين في انتخابات 2005 والتي أجريت في ظل أجواء دولية تدفع نحو الإصلاح السياسي وفي ظل إشراف قضائي كامل. ويلاحظ أن 80 في المئة من إجمالي المرشحين هم من غير المنتمين الى أحزاب، مما يكشف عن مدى ضعف الأحزاب في مصر، وغياب السياسة عن العملية الانتخابية، بخاصة أن أغلب هؤلاء المرشحين المستقلين لا يمتلك مواقف أو رؤى سياسية بل يخوضون الانتخابات من باب تقديم الخدمات أو اكتساب الوجاهة السياسية والاجتماعية ومحاولة تحقيق مكاسب شخصية وأسرية. وفي مقابل تضخم أعداد المستقلين يستمر ضعف حضور الأقباط والمرأة بين المرشحين. سادساً: انتهاك أغلب المرشحين ومن كافة الأحزاب والمستقلين للقواعد التي وضعتها لجنة الإشراف على الانتخابات بخصوص الحد الأقصى المسموح به للإنفاق على الحملات الانتخابية، وعدم استخدام الشعارات الدينية ودور العبادة والمصالح الحكومية في المعركة الانتخابية. لقد مارس معظم المرشحين بمن في ذلك بعض الوزراء كل أنواع المخالفات التي قررتها لجنة الإشراف على الانتخابات بضمير مرتاح، ومن دون اكتراث بالنتائج والتداعيات، فتغييب القانون أو التحايل عليه صار إحدى سمات الحياة في مصر، مع ملاحظة أن القانون قد يُستدعى ويطبق بحزم ضد بعض رموز المعارضة بخاصة بعض مرشحي جماعة «الإخوان المسلمين». أقول بعض وليس كل مرشحي الجماعة، فهناك أحاديث عن صفقة تمت بين الحزب الحاكم والجماعة أعلنت الجماعة بمقتضاها مشاركتها المحدودة في الانتخابات، وعلى ثلث مقاعد مجلس الشعب فقط، على رغم قدرتها على التقدم بمزيد من المرشحين، كما رفضت بحسم الرقابة الدولية على الانتخابات، لكنها وافقت على رقابة منظمات المجتمع المدني الدولية والعربية. سابعاً: إذا كانت صفقة «الإخوان» مع الحزب الوطني مرجحة، فإن صفقات الأخير مؤكدة مع الأحزاب الثلاثة الكبيرة نسبياً وهي الوفد والتجمع والناصري. لكن يبدو أن كل هذه الصفقات غير مستقرة وتنتظر حسابات توازن القوى في مجمل الدوائر الانتخابية، والتقارير الأمنية. فأغلب الدوائر تحسمها العصبيات الأسرية والقبلية في بعض المناطق، علاوة على قدرة المرشح الفعلية والمتوقعة على تقديم الخدمات سواء من أمواله الخاصة أو من مخصصات الدولة، وتلعب الأجهزة الأمنية دوراً كبيراً في التعرف على فرص كل مرشح سواء من الحزب الوطني أو جماعة «الإخوان» والمعارضة والمستقلين. وقد يسمح توازن القوى وقوة المرشح بتدخلات لدعمه أو التخلي عنه كي يفوز مرشح من المعارضة ليدخل في إطار الصفقات السرية أو الحصص التي يقال إن الحزب الوطني منحها لمعارضيه. وعلى كل حال، فإن يوم الحسم الانتخابي صار قريباً الأحد وستكشف النتائج حقيقة ما يتردد عن الصفقات الانتخابية. * كاتب وجامعي مصري