بدأ تحول القوة الاقتصادية من الغرب إلى الشرق قبل الأزمة المالية العالمية التي بدأت في أيلول (سبتمبر) 2008، لكن الأزمة قصّرت المسافات، فعام 1995 كان الناتج المحلي الإجمالي للصين يعادل نحو 10 في المئة من نظيره الأميركي (728 بليون دولار في مقابل 7342 بليون دولار)، لكن هذه النسبة بلغت عام 2000 نحو 31 في المئة، وارتفعت إلى نحو 55 في المئة عام 2008 على أساس تعادل القوة الشرائية. واستناداً إلى متوسط معدل النمو في الأجل البعيد في كل من الولاياتالمتحدة والصين البالغ 3.4 في المئة وتسعة في المئة على التوالي، يُتوقَّع للناتج الصيني ان يتجاوز نظيره الأميركي عام 2031، أي بعد 21 سنة من اليوم، لكن متوسط نصيب الفرد من الناتج في الولاياتالمتحدة سيظل أكبر من نظيره الصيني حتى عام 2053. هذا التحول في القوة الاقتصادية من الغرب إلى الشرق وما يصاحبه من تحول في النفوذ العالمي، يتيح فرصاً أمام البلدان التي لديها موارد مالية أو موارد طبيعية أو القدرة على الاستيعاب والتطوير، أي ان الرابحين من هذا التحول الاقتصادي نحو الشرق هم أصحاب السيولة النقدية أو السلع أو القدرة على الإبداع. ودور الأزمة المالية العالمية هو تسريع عملية التحول هذه. فالغرب، والولاياتالمتحدة تحديداً، عاش فترة رخاء وإسراف ويواجه في المرحلة الراهنة فترة تقشف وشد أحزمة. وفي المقابل، شهدت الاقتصادات الناشئة فترة انتعاش وازدهار وهي في حاجة إلى استثمار يحسن الأوضاع المعيشية للسكان. تلعب التحولات الاقتصادية دوراً مهماً وبارزاً في الحوار الدائر في مجموعة العشرين حول سبل الخلاص من تبعات الأزمة. والخوف هو ان يسبب النمو الضعيف في الغرب سلوكاً غير حميد تجاه الآخرين في مجالي التجارة الدولية وأسعار العملات والمؤسسات التي يعتقدون أنها أشعلت الحريق وتسببت بالأزمة المالية العالمية. فهناك، مثلاً، دعوة من قبل مشرعين أميركيين إلى فرض عقوبات على الصين ان لم تترك سعر صرف اليوان يرتفع وفقاً لما تحدده السوق. وكان متعارفاً عليه ومقبولاً ان القطاع المالي وتحديداً المصرفي، مهم ومفيد للاقتصاد. لكن في ظل الأزمة ظهرت تساؤلات حول فائدة القطاع المالي والمصارف، بل ذهب البعض إلى القول ان ضررها أكثر من فائدتها. ومن ضمن الجدل القائم حول المصارف والسماح لها بولوج تشكيلة من النشاطات الشاملة أو المحدودة، يبرز خوف على المصارف التجارية، التي تؤدي عملاً محورياً للاقتصاد في تسهيل كثير من الأعمال والتجارات، يتجسد في احتمال انحسار نشاطاتها والتضييق عليها. ففي الولاياتالمتحدة، قال بول فولكر، رئيس مجلس الاحتياط الفيديرالي ما بين عامي 1979 و1987، ورئيس مجلس الإنعاش الاقتصادي الاستشاري الذي انشأه الرئيس الأميركي باراك أوباما في شباط (فبراير) 2009، ان الابتكار المفيد اجتماعياً الذي ابتكرته المصارف هو آلات الصراف الآلي فقط. وجاء قول فولكر في إطار النقاش الدائر حول إفساح المجال للمصارف للابتكار في مقابل التنظيم لتحقيق التوازن المطلوب في القطاع المصرفي. أما الاقتصادات الناشئة، وفي ظل البيئة الاقتصادية الكلية وآفاقها في آسيا، فإنها تواجه تحديات. تُقدّر، مثلاً، تكلفة استثمار القطاع العام بأكثر من ثمانية تريليونات دولار. فيما تبرز أيضاً مسألة تدفقات رأس المال وكيفية إدارتها، وهذا الأمر يتعلق أساساً بقضية تعميق أسواق رأس المال في آسيا وتوسيعها. وأظهر انحسار التجارة الدولية بنحو 21 في المئة عام 2009 تشابك الاقتصاد العالمي وترابطه، كما ان الأزمة المالية التي «صُنعت» في الغرب وفي الولاياتالمتحدة تحديداً انتشرت عالمياً وكانت لها تداعيات في الاقتصادات المتقدمة والناشئة والنامية كلها. والدرس الاقتصادي الجوهري الذي يمكن استخلاصه من هذه الأزمة هو ما يتعلق بالمديونية وتحديداً المديونية الكبيرة. ان هذه الأزمة المالية العالمية، على رغم سماتها المختلفة عن الأزمات المالية السابقة، تشترك مع الأزمات السابقة بالسبب الجوهري، وهو المديونية الضخمة. والواقع ان الأزمة المالية الراهنة شهدت جمعاً مؤذياً بين المديونية والاقتراض وسهولة الحصول على النقود والتوقعات الأحادية الاتجاه بارتفاع أسعار الأصول خصوصاً العقارات. وليس هذا الجمع نظرياً، فقد حصل في الغرب وتجسد في اتجاه واحد تصاعدي لأسعار المساكن في الولاياتالمتحدة، كما في العديد من دول مجلس التعاون. وفشلت الولاياتالمتحدة في الاعتراف بأن لديها فقاعة كبيرة في قطاع السكن كما فشلت في تنظيم الرهن العقاري في شكل مناسب. وفي بريطانيا كان هناك إدراك بوجود فقاعة مساكن، لكن الفشل بعدم القيام بأي شيء كان هو الموقف السائد. وفي ظل العولمة وتشابك الاقتصادات فإن الاقتصادات الناشئة في آسيا هي قاطرة النمو العالمي، ولذلك عليها ان تدرك القضايا التي قد تؤثر في مسار نموها مثل تلك المرتبطة بفقاعة المساكن وأن تتجنب الوقوع فيها كما حصل في الغرب. ففي الصين قلق يتمثل في ارتفاع مستوى أسعار المنازل بسبب الجمع بين التمويل الرخيص والتوقعات الأحادية الاتجاه ما يزيد المشاكل تعقيداً. والدرس الذي يجب ان يدركه الجميع ويطبقه في ظل تحول القوة الاقتصادية من الغرب إلى الشرق هو تجنب المديونية الكبيرة. * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية