ما جدوى الانتخابات والمشاركة فيها أو مقاطعتها، ترشيحاً أو تصويتاً، في أنصاف الديموقراطيات؟ وما جدوى الاقتراع في سباقات معروفة النتائج سلفاً خصوصاً أن الهدف منها هو الحفاظ على نظام الحكم القائم والسلطة وليس تداولها أو تقاسمها كما هو عادة هدف الانتخابات؟ أسئلة تطرح نفسها بقوة في إطار الانتخابات التشريعية المرتقبة في مصر والإنتخابات التي اجريت في الأردن حيث ينطبق ذلك الواقع إلى حد بعيد، لا سيما أن شكل المعارضة شبه الوحيد في كلا الحالتين يختصره التيار الإسلامي المتمثل ب «الإخوان المسلمين». أما الغرب، أو المجتمع الدولي فمتأرجح والحالة هذه بين الوفاء لإرثه الديموقراطي وتمسكه بنشر مبادئه من جهة وعدم رغبته في التعامل مع نتاج ديموقراطي قد يعكس رغبات الشارع لكنه يناصبه العداء ولا يحقق له مصالحه في المنطقة. وإذا كان التعريف الأول والأساسي للديموقراطية هو تمثيل القوة الناخبة في الحكم بما يكفل المشاركة في القرار وتداول السلطة، فإن أي انتخابات نتائجها معروفة مسبقاً تبدو عملياً غير مجدية ولزوم ما لا يلزم. لكن مبرر إجرائها على ما يقول نائب مدير مركز الأهرام للدراسات وحيد عبد المجيد «إن العالم أصبح ومنذ القرن التاسع عشر يعتبرها وسيلة من وسائل إضفاء الشرعية على الأنظمة وصار المجتمع الدولي يعتبرها كأساس ضروري ومهم لشرعية الحكم ما جعل مجرد إجراء الانتخابات سواء ديموقراطية أو غير ديموقراطية، خطوة ضرورية لنيل اعتراف دولي». ويضرب عبد المجيد مثالاً هو جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق حيث كانت تجرى انتخابات دورية وفي مواعيدها المحددة كما لو انها ستنتج تغييراً ما «لكن المشهد كان معروفاً مسبقاً والأحزاب الأخرى تكاد لا تذكر» يقول عبد المجيد. ويضيف «غير أن تلك العملية الشكلية لم تمنع العالم من الاعتراف بها والتعامل مع قادتها بصفتهم منتخبين محلياً». هي إذاً مجرد ممارسة روتينية وصورية تلجأ إليها الحكومات لتعزيز موقعها على الخريطة السياسية الخارجية، وتحكم قبضتها أكثر على معارضيها في الداخل فتتفنن في إبعادهم حيناً أو احتوائهم حيناً آخر، أو حتى الترحيب بمشاركتهم في ظل قوانين انتخابية تصوغها بموجب قياسها وبما يضمن فوزها في نهاية المطاف. لكن المعارضة الإسلامية نفسها، التي كانت تعتبر الانتخابات بدعة عادت وأعلنت مبادرتها بالقبول بشروط اللعبة السياسية والمشاركة فيها خصوصاً مع تضاؤل دور وحجم الأحزاب الليبرالية والعلمانية إلى حد الغياب الكلي. وفي هذا السياق يقول الكاتب الأردني محمد أبو رمان «السؤال الفعلي هو ماذا بعد المشاركة السياسية؟ فالحركات الإسلامية أعلنت قبولها بالتعددية وبالسلطة وأبدت استعدادها للمشاركة بالسياسة بما تقتضيه قاطعة الطريق على اي تهمة. لكنها وجدت ابواب السياسة موصدة في وجهها». ويضيف «لذلك بدأت تطرح داخل تيار الإخوان المسلمين في الأردن اليوم جدوى الاستمرار في القبول أن يكونوا جزءاً من سياسة تكرس الوضع القائم». وإذ تفاءل البعض بأن ثمة رياحاً ديموقراطية تهب على المنطقة العربية ابتداء من العام 2003 تزامناً مع حرب العراق، تمثلت في مسارعة بعض البلدان الى تطبيق إصلاحات داخلية وإجراء انتخابات شاركت فيها أطياف المعارضة تفادياً لأي تدخل خارجي مباشر، يبدو اليوم أن هذه الرياح نفسها بدأت تنحسر وتتراجع أمام مساعي استبعاد المعارضين من جهة ورجوح كفة التوريث السياسي الذي باتت ملامحه واضحة من جهة أخرى (مصر وليبيا مثلاً). وصحيح أن الانتخابات الأردنية الأخيرة حملت جديداً عن سابقاتها لجهة الحضور النسائي القوي تصويتاً وترشيحاً حتى وسط العائلات التقليدية والبيئة العشائرية مع فوز 13 سيدة بمقاعد نيابية وأيضاً لجهة وصول «وسطيين» غير محسوبين كلية على النظام. يبقى أن مقاطعة الإخوان مع ما يشكلونه على الأرض وتطبيق قانون الصوت الواحد حرم شرائح كثيرة من المجتمع الأردني من التمثيل السياسي. الالتفافة القانونية المشابهة في مصر تكمن في تحجيم الإشراف القضائي وتقليص دوره في انتخابات 2010. وهو وإن لم يمنع التلاعب بشكل كلي سابقاً لكنه لعب دوراً اساسياً في توفير حد أدنى من حسن سير العملية الانتخابية ونزاهتها ما ضمن للإخوان المسلمين حصولهم على 88 مقعداً في انتخابات 2005. «كانت ضربة حظ وانتخاب ضد الحزب الحاكم من دون أن يكون بالضرورة تأييداًَ لشعار الإسلام هو الحل الذي يرفعه الإخوان المسلمون» يقول الباحث والأكاديمي في جامعة اوكسفورد سامر القرنشاوي. ويلفت القرنشاوي إلى معادلة متناقضة في هذا السياق تكمن في حظر التنظيم الإخواني رسمياً مقابل الاعتراف بشعاره كشعار دستوري خصوصاً بعدما باتت الشريعة تعتبر «المصدر الرئيسي للتشريع» وكانت قبل التعديل الأخير «مصدراً رئيسياً» فقط. وتراوحت علاقة السلطة في مصر مع جماعة الإخوان المصريين بين المطاردة الكلية ومحاولة الاستئصال في ستينات القرن الماضي إلى شيء من الاحتواء ترافق مع مطاردة الأحزاب اليسارية والليبرالية ثم تدجينها وعقد صفقات معها. وكان لانتخابات 2005 وحصول الإخوان على نحو 20 في المئة من المقاعد النيابية وهم الذين يترشحون اليها كمستقلين أثر المنبه بالنسبة للسلطات التي عادت إلى مطاردتهم واعتقالهم مقابل إصرار قوي منهم على المشاركة في الانتخابات في حين قد يتوقع المراقب أنه حري بهم المقاطعة كما فعلوا في الأردن. لكن عبد المجيد يقول «في الأردن لا يتعرض الإخوان للملاحقة بل هم حزب معترف به رسمياً اما في مصر فهم جماعة محظورة تعمل وتنشط في السر. لذلك تشكل الانتخابات لها متنفساً وضرورة حيوية وتنظيمية ترتبط بوجودها نفسه». ويضيف «هذه فرصة بالنسبة للإخوان لنقل نشاطهم السياسي من تحت الأرض إلى فوقها كما انها فرصة للتواصل مع الناس بشكل علني ومباشر وهو ما يكون صعباً للغاية في الحالات الأخرى». ويسمح القانون للمرشح الإخواني، الذي يكون طبعاً مرشحاً تحت مسمى «مستقل» حرية حركة كبيرة مع معاونيه ومساعديه خلال حملته الانتخابية كما يسمح له عقد لقاءات لعرض برنامجه وهو ما يكون شبه مستحيل في الحالات الأخرى. وبحسب عبد المجيد فإن أكثر ما يستفيد منه الإخوان في حالة الفوز بمقعد نيابي هو الحصانة القانونية التي يتمتع بها عضو مجلس الشعب وتمكنه ايضاً من العمل بحرية لا يوفرها انتماؤه الى تنظيم محظور. ويحظى تنظيم الإخوان المسلمين في مصر بتأييد واسع على الأرض، لكنه قد لا ينعكس بالضرورة في صناديق الاقتراع. فبالنسبة إلى الرجل العادي هم جماعة ترفع مطالب شعبية محقة لكنه في المقابل لم يختبر صدق نواياهم في التطبيق. وفي انتخابات 2005 لم يتجاوز عدد الذين صوتوا لمصلحة الإخوان 3 في المئة في حين أن شعبيتهم تراجعت بدورها خلال السنوات الخمس الماضية لكونهم لم يتمكنوا من الإيفاء بوعودهم الانتخابية. اما في الأردن، حيث التنظيم شرعي وحاضر بقوة في المسرح السياسي، الوضع مختلف. فهنا الحاجة الى المقاطعة تبدو أكبر كما انها (اي المقاطعة) أكثر تأثيراً على الشارع من المشاركة. ويقول أبو رمان في هذا الصدد «بات الإخوان يشعرون انهم يكرسون وضعاً غير مقبول في الشارع الأردني وأنهم يضفون شرعية على انتخابات صورية. فالأوضاع الاقتصادية والمعيشية والسياسية في البلد الى تدهور وهم يرون انهم بمشاركتهم يساهمون في تثبيتها لذا يجب أن يكونوا خارج النظام. لذا هناك اليوم حديث عن تغيير سياسي من خارج قواعد اللعبة، واستبدال للمعارضة الناعمة بالمعارضة الخشنة». وإذ يستعد إخوان الأردن إلى أول مؤتمر حوار داخلي موسع تشارك فيه قيادات وكوادر، يكثر الحديث عن احتمالات رفعهم شعار «الملكية الدستورية» متجاوزين بذلك كل الخطوط الحمر. ومن المرجح أن تطرح مواضيع جوهرية في المؤتمر من قبيل المواطنة والهوية الوطنية وغيرهما من مؤشرات الانتماء إلى المملكة أو إلى اوطان تتجاوز حدود الأردن. ويقول ابو رمان «اللافت أن هذا التيار الذي يسمى اليوم بالإصلاحي داخل الإخوان، والذي يبدو أنه يميل الى خيارات قصوى هو نفسه الذي كان من الحمائم سابقاً». وأضاف ابو رمان «لماذا هذه النقلة؟ لأن الدعوة الى الاعتدال والمشاركة قوبلت في 2007 بتزوير واسع النطاق، ولا دولة تضرب تياراً موجوداً ومتجذراً بهذه الطريقة لأنها ستخسره لا محالة». ويستبعد أبو رمان أن يتخذ هذا الطرح تأييداً واسعاً او حتى العمل جدياً على قضية الملكية الدستورية «لأسباب ديموغرافية». فهؤلاء غالبيتهم من شرق اردنيين وحساسيتهم كما أولوياتهم داخلية ومحلية في حين أن الغالبية وسط تنظيم الإخوان هي ذات اصول فلسطينية وأولوياتها في مكان آخر أو على الأقل في منطقة رمادية. والتجربة السابقة اثبتت صحة هذا القول. فعندما حصل «التيار الإصلاحي» على الضوء الأخضر من قيادته لتقديم هذا البديل، تراجعت القيادة وبقي هو وحده في الواجهة. وبين الحالة المصرية والحالة الأردنية تبقى المعارضة الإخوانية خياراً وحيداً لمن يرغب في التغيير. لذلك فإن امكانات استغلالها امام المجتمع الدولي والغرب عموماً أكبر، فهي تظهر نظام الحكم بأنه يتيح عمل المعارضين ومشاركتهم في اللعبة السياسية، وخوفه في الوقت نفسهم من تنظيمات اسلامية قد تعتمد العنف وسيلة لبلوغ السلطة وهو خوف غير مبرر عملياً لأن التنظيم اعلن منذ 40 عاماً تراجعه عن الخيار العنفي. وإذ يبدو الأفق مغلقاً في مصر لجهة بروز معارضات رديفة، خصوصاً مع تراجع البرادعي الذي يبدو أن طموحه مقتصر على تحريك حالة الركود من دون تغييرها بالضرورة تتحرك في الأردن بوادر معارضة مدنية مكونة بشكل اساسي من شرق اردنيين يشكلون عماد السلطة. فالتحركات المطلبية والشعبية في الشارع من حركة المعلمين الى عمال المياومة وصولاً إلى المتقاعدين في الجيش تبشر بحراك سياسي رديف. ويقول ابو رمان «هناك اهمية خاصة لتحرك المتقاعدين العسكريين ليس فقط لكونهم من مؤسسة الجيش ولكن ايضاً لأنهم يشكلون اليمين الأردني الذي ابدى مخاوف وقلقاً من المستقبل ومن تحويل الأردن الى وطن بديل». وفي حين لا ترى الأنظمة العربية، الديموقراطية، إلا كونها ديكتاتورية الغالبية، وتسعى بالتالي الى الحفاظ على تلك الغالبية، يبدو المثال التركي نموذجاً مقبولاً للتحول التدريجي عوضاً عن الانتقال المفاجئ الذي قد لا تحمد عقباه. ويقول القرنشاوي «الديموقراطية هي ثقافة كاملة وممارسة حياتية يومية وهي ايضاً حفاظ على حقوق الأقليات على رغم حكم الغالبية». ويضيف: «النموذج التركي مثال جيد. فالمعارضة اتيح لها العمل بداية على المستوى الضيق، من انتخابات بلدية وجامعية وغيرها. ونحن لا نقول انه يجب الانتقال السريع لكن لماذا لا نبدأ بالانتخابات الطالبية والمناطقية ونضمن انتخابات نزيهة داخل الأحزاب للخروج بطبقة حاكمة تمثل الجميع؟». هل ثمة انكفاءة غربية عن محاولات «نشر الديموقراطية» يأخذ كثيرون اليوم على الرئيس الاميركي باراك أوباما وإدارته التراجع في ملف الاصلاح الديموقراطي في الشرق الاوسط وعدم إدراجه على لائحة اولوياته في ما يخص السياسة الخارجية. فالإرث الذي خلفته إدارة الرئيس جورج بوش السابقة، جعلت أي محاولة اميركية وغربية لمساندة تحولات من هذا النوع تحاط بكم هائل من الشكوك ونظريات المؤامرة، علماً أن الواقع على الارض لم يعزز بدوره توجهاً معاكساً. فإذا ما لخصنا التجارب الاميركية الحديثة ب «نشر الديموقراطية» في الشرق الاوسط بحالات ثلاث يسهل فهم القبول الغربي اليوم بأنظمة غير ديموقراطية ولا تعبّر عن رغبات شعوبها، وإن كان فهماً لا يبرر القبول. بداية في 2003 قامت التجربة الاميركية مع العراق على القوة المسلحة والديموقراطرية المفروضة فرضاً. وصحيح أن تلك التجربة التي لا يمكن الحكم عليها بعد إلا لكونها خطأ استراتيجياً لجهة اعتماد الحرب وسيلة لإحلال السلام إلا أنها أجرت انتخابات شاركت فيها غالبية الشعب العراقي واتسمت بنزاهة وانصاف كبيرين، تفتقد اليها غالبية شعوب المنطقة. لكنها عملياً لم تفض إلى اتفاق عراقي- عراقي في تقاسم السلطة وتداولها، بل الحالة اليوم أشبه بحرب أهلية وفراغ حكومي قارب على العام. التجربة الثانية التي يمكن التطرق اليها هي دعم ما يسمى «ثورة الارز» في لبنان في 2005، وهو تحرك شعبي طالب بخروج القوات السورية من لبنان وإشراك فئات كانت مهمشة سابقاً في السياسة والحياة العامة. لكن البديل الذي قدمته تلك القوى لم يرق الى طموحات مؤيديها، ولم يكن أكثر عدلاً ولا هو أنتج مسارات مختلفة عن الوضع السابق. أقصى ما تم تحقيقه هو تثبيت مكتسبات ومحاصصة طائفية، وتنظيم انتخابات استشرت فيها الرشوة وشراء الاصوات بهدف الحفاظ على الحكم. ثم كان عود على بدء وانتظام في الدورة الثابتة بلاعبين مختلفين. أما التجربة الثالثة، وهي أكثر ما يخيف الغرب وتستغله الانظمة العربية كورقة ضغط خارجي فهي الانتخابات الفلسطينية في 2006، والتي حظيت بدعم عالمي ومراقبة دولية حسمت عدم وقوع غش أو تزوير لكنها أفضت الى وصول حركة «حماس» الى السلطة مع كل ما يعينه ذلك، وهو أصلاً ما تم اختباره فعلياً على مدى السنوات الاربع الماضية من تداعيات على عملية السلام. وعملية السلام هذه، هي نفسها التي تلوح بها الانظمة المرشحة لايصال قوى اسلامية الى مواقع القرار في وجه المجتمع الدولي كلما فتح الباب للديموقراطية أو كاد يفتح. فمَن على الضفة الشمالية للمتوسط يرغب بتنظيم اسلامي يتمتع بأرجحية تشريعية في بلدين مجاورين لاسرائيل؟