العمر كتباً يدرّس الكتابة الإبداعية، ويتعاقد بكتاب مع كل سنة تمرّ. بعد «حدائق منشقّة» التي تناولت انهيار اليسار الأميركي في 2014 أصدر جوناثان ليثيم مجموعة «آلان المحظوظ» وجمع مقالاته في كتاب. أخلص لعادته وأصدر في مطلع السنة روايته الأخيرة «تشريح مقامر» التي صدرت في بريطانيا بعنوان «اللطخة» عن دار جوناثان كيب. يرصد الكاتب الأميركي علاقة الحياة بالصدفة عبر بطله لاعب «الطاولة « المحترف الذي يربطها بالصدق. لا يحدّد النرد المصير بقدر ما يكشف الشخصية، وحين تقع قطعه على الخشب يسمع «نغمة الفكر النزيه» التي يرجّعها الصمت. قبل البدء بالكتابة، أعاد ليثيم قراءة روايات غراهام غرين الذي أجلّه مراهقاً، وكتب عن رجال يلحق العار بهم مثل بطله. ألكزاندر برونو رجل وسيم، صقيل يرتدي التوكسيدو ويشبه جيمس بوند وعازف البيس في فرقة «دوران دوران». تسبقه شهرته أينما سافر ليأخذ نقود الأثرياء في النوادي والمنازل الفخمة، وتبدو الخسارة لهذا الرجل الغريب الحزين امتيازاً. بعد رحلة خائبة الى سنغافورة يتجه في أول الرواية الى قصر خارج برلين حيث تظهر امرأة مقنّعة، نصف عارية تقدّم للاعبين سندويشات صغيرة. خصمه فولفديرك كولر ملاّك كبير أثرى من شراء قطع أراض كثيرة قرب حائط برلين قبيل سقوطه. كان ألكزاندر شكا من غشاوة في عينه منذ جلسة الكحول والمخدرات في سنغافورة، وخلال اللعب يغمى عليه وهو على وشك الربح. يكشف الفحص الطبي ورماً في دماغه يضغط على العصب البصري، لكن اللطخة قد تكون أيضاً رمزاً لما «لا تستطيع روءيته ومعرفته. ما هو في مركز البصر، أنت». يطلب الطبيب الألماني منه ألا يبحث عن معنى في اللطخة. يفتش البشر عمن يلومونه، أو يلومون أنفسهم لكي يؤلفوا قصة، أو يجدوا عبرة، لكن الأجدى القبول بعشوائية ما حدث. لا يقبل ألكزاندر النصيحة اليائسة، ويعثر على جرّاح أميركي هيبي متحمّس لإنقاذه. يعود الى بركلي حيث نشأ، ويقول الدكتور بيرينغر إن ما في داخله، خلف وجهه، بدأ يتحرّك منذ أعوام الى موعد معه، وإنه كان يستعدّ، بتطوير تقنيته وتحسينها، ليكون الشخص الذي يقابله. «لا أريد أن أشبه الدكتور فرانكشتاين، لكن المسألة مصيرية». يرى الطبيب وجه ألكزاندر يهبط نحو رقبته وصدره ليشبه صدريّة طعام الأطفال. أحبّ الرجل الوسيم النساء، وتنقّل بخفّة بين اثنين منهن أخيراً. تعبر إحداهما الأطلسي لتعنى به، لكن الكاتب المرح يوحي أن هدفها الحقيقي الحصول على مسكّنات الوجع لديه لإدمانها عليها. يفصّل ليثيم العملية من وجهة نظر الجرّاح المهووس بجيمي هندريكس، ويعتبر «اللطخة» رواية الرعب الأولى التي يكتبها علماً أنه رأى كتابته قاتمة دائماً. ثلاثة وجوه لحواء في روايتها العاشرة، تنقل صورة لثلاث نساء ورجل إليف شَفَق بين اسطنبول 2016 وأكسفورد 2000. تبدأ «ثلاث بنات لحواء» الصادرة عن «فايكنغ» بامرأة ثرية عالقة في زحمة السير وهي في طريقها الى عشاء. تلاحظ بيري متشرّداً يقترب منها، وتتساءل إذا كان لاجئاً سورياً أو مواطناً تركياً أو كردياً أو غجرياً. يسرق حقيبتها فتطارده الى زقاق، وتجده يتنشقّ الغراء. كان ناحلاً مثل همسة ومصاباً بالإكزيما، لكنه تبختر مثل ممثل. تحاول انتزاع الحقيبة منه فتقع منها صورة بولارويد قديمة جمعتها بصديقتين وبروفسور أمام مبنى مكتبة بودليان في الجامعة. تجفل بيري كأن الصورة حيّة وستصاب بأذى عند السقوط، وتواجه خواء روحها والعلاقات المحبطة مع الثلاثة الذين شغلوا بعض ماضيها. تهجس شَفَق بالدين والحرية والسلامة والجنون، ووقوف بطلتها في منزلة بين المنزلتين. كانت والدة بيري مسلمة متدينة، ووالدها ملحداً مدمناً على الكحول، وطغى خلافهما على ذكرياتها معهما. هربت الى أكسفورد لتصادق ضدّين. منى المصرية الأميركية التي توفّق بين الحجاب والنسوية، وشيرين الإيرانية التي تفعل ما يحلو لها. لم تحدّد بيري هويّتها يوماً، و «فيما كان البعض مؤمناً بشغف والآخر لا مؤمناً بشغف بقيت هي عالقة في الوسط بينهما». شكّلت مع شيرين ومنى بنات حواء الثلاث اللواتي دعون أنفسهن «الخاطئة، المؤمنة والمشوّشة». التحقت الشابات بحلقة البروفسور أزور الدراسية عن البحث العلمي في طبيعة الإيمان، وفُتِنت بيري بخُصل شعره المتمردة، أوشحته الصفراء، قبعاته المخملية، وقوله:»هذا جيد يا بنت اسطنبول. تابعي التحدّي». حين تحصل الفضيحة، تجد بيري نفسها وسط نارها. تواجه بيري انفصالها عمن حولها في العشاء في قصر على الشاطئ بين مهندسين، صحافيين، مصرفيين وزوجاتهم الأنيقات المترفات. يأكلون الطعام الفاخر، يشاهدون تقريراً عن هجوم إرهابي على التلفزيون، ويستشيرون منجّمة واثقة من رؤيتها مستقبلهم. تتابع شفق الجدل الديني الذي بدأته في روايتها الأكثر مبيعاً «قوعد الحب الأربعون» في 2010 الذي استكشفت فيه التصوّف. بيري «الميّالة للعتمة» ترى تكراراً طفلاً وسط الضباب يصلها بالعالم الروحي الذي يواسيها ويشوّشها في آن واحد. بيت يحفظ أسراره أشهر لوحة أميركية على حائط في «الأكاديمية الملكية» في لندن منذ نهاية الأسبوع الماضي. «قوطيّة أميركية» نجمة معرض «أميركا بعد الانهيار:الرسم في ثلاثينات القرن العشرين» والأكثر ألفة. نسخها الفن والإعلام والإعلان، وبتنا نحسب، إذ يقع النظر عليها، أن معرفتنا بها راسخة من أن يكون ذلك صحيحاً تماماً. في 1930، خلال حقبة الركود في أميركا، رسم غرانت وود ثنائياً قلقاً، متسائلاً تحت سماء زرقاء وأشجار باذخة. البيت الأبيض خلف الرجل النحيل مغلق، مسدل الستائر كأنه يدافع ويحفظ أسراره. لكن لغة الوجه والجسد تقول الكثير عن الكدح والبناء والصراع المستمر للبقاء. يحمل المزارع شوكة كأنه يدافع عن جنّته، وعن المرأة، الزوجة الأصغر سنّاً أو البنت العازبة، التي تقف خلفه قليلاً لا قربه. يبدو صارماً، محافظاً بلا شك، وتظهر متزمّتة بثيابها الطهرانية والحلية القديمة وسط ياقتها لولا الخصلة المتحررة من شعرها المعقوص المضبوط التي تشي بالتمرد. هذا هو الثنائي المتقشّف الذي بنى أميركا، ويبقى حارساً لنعيمها وصورتها حتى في حقبة الركود والأرض المجدبة. البيت الأنيق، النظيف من داخل بلا شك، يبدو خلفية في فيلم، فارغاً من الحياة، لكنه رمز الحلم الأميركي والتكامل مع بُناته. الخطوط الثلاثة في قميص الرجل وصدرية ثوبه تماثل أسنان شوكة الزراعة وخطوط الشباك والبيت، وزرّ القميص الذهبي يتكرّر في أعلى عصا البرق فوق السطح. يشبه مريول المرأة ستائر النافذة القوطية، ويماثل تعرّج الشريط الأبيض أعلى مريولها انقسام الخط العمودي وسط النافذة فرعين في أعلاها. الرجل العائد من أرضه يغطي ثياب العمل بسترة، والمرأة المعنية بتقديم أفضل صورة عن زوجها وبيتها ترتدي ثياباً بسيطة لكنها نظيفة ومكوية. ووجه كليهما طويل كالنافذة. وُلد غرانت وود في 1891 في آيوا، ورعت والدته أسرتها وحدها حين توفّي والده وهو في العاشرة. عمل الفتى في متجر، ودرس الفن، وزار أوروبا لكنه لم يعد منها طليعياً، راغباً في التغيير مثل كثر غيره. بقي مهتماً بالأرض وناسها، وكان عائداً من المدرسة التي علّم الفن فيها حين شاهد البيت الصغير بنافذته القوطية الكبيرة في إلدِن، آيوا. توقف ليرسم مسوّدة، وفي منزله جعل النافذة طويلة، وتخيّل الأميركيين أمة من البشر الطويلي الوجوه. أراد أصحاباً للمنزل فاستعان بشقيقته نان وطبيب الأسنان الدكتور بايرن ماكيبي، ورسم كلاً منهما على حدة. رأى أميركيون كثر لوحة وود مثال الهجاء المدمّر، واتصلت به زوجة مزارع بعد رؤيتها اللوحة في صحيفة لتعبّر عن الرأي الشعبي في آيوا. قالت إنه صوّر أهلها واعظين متهجّمين بالإنجيل، وإنها ستأتي لتحطّم وجهه. رعت نان تركة شقيقها بعد وفاته الباكرة بالسرطان عن واحد وخمسين سنة، وقاضت «بلاي بوي» حين انضمت المجلة الى موجة التقليد ونشرت اللوحة برجل وامرأة عاريين.