وضع الكاتب أحمد العرفج نفسه أمام فوهة المدفع، حين أصدر قبل أيام كتابه الجديد «الغثاء الأحوى في لم طرائف وغرائب الفتوى» (المركز الثقافي العربي - بيروت)، إذ انهالت عليه السهام من كل حدب وصوب بمجرد نشر أخبار حول صدور الكتاب. وحتى يطلع القارئ الجاد على الكتاب، فمن السابق لأوانه معرفة ما إذا كان العرفج، بالفعل ألقى حجراً في مياه راكدة؟ أو أنه يصطاد في مياه عكرة. «الحياة» التقت الكاتب أحمد العرفج، وواجهته ببعض ما يدور حول الكِتاب من توجسات، إضافة إلى محاولة معرفة مآرب الكاتب، واستشفاف رأيه في ما يخص اتهامه بالانتقاص من الفتاوى والمشايخ... فإلى تفاصيل الحوار: لا يخرج الكتاب الجديد الذي أصدرته عن المركز الثقافي العربي عن سياق كتاباتك في الصحافة، والتي تستهدف مشاكسة السائد، ومساءلة الظواهر الغريبة، كيف خطرت لك فكرة تأليف هذا الكتاب؟ - القارئ أصبح أكثر قدرة على الفرز والتصنيف، لذا فالكاتب الذي يحاول أن يكون صادقاً مع القارئ، لا يغيّر جلده بتغيّر صنوف الكتابة، بل عليه أن يستخدم الأدوات ذاتها في المقالة أو في التأليف، سواء كان ناقداً لجهل سائد أو محتفياً بتغيّر إيجابي، أما فكرة تأليف هذا الكتاب، فتهادت إليّ بأقدامها، بعد أن وجدت أن اهتمامي بجمع الفتاوى خلال ربع قرن ربما يستحق أن يوثّق في كتاب مهما كان الجهد المبذول كسيحاً، معتمداً بعد الله على إخلاص النية وسلامة الطوية. بما أنك تنحو في كتاباتك إلى السخرية وأحياناً النقد اللاذع، فهل استخدمت المنهج نفسه مع مواضيع الكتاب؟ - الكتابة الساخرة من أصعب فنون الكتابة، لأن دفع آلاف البشر للبكاء أسهل من رسم البسمة على شفتي إنسان واحد، والنقد هو النقد، سواء كان لاذعاً أم متدثرا بالموضوعية أو مبهّراً بالسخرية، وهذه الأخيرة تحضر متى شاءت، وتتوارى متى كثرت الغيوم في الأجواء، وما قد يجده البعض من سخرية في الكتاب، قد يراه آخرون استهزاء، وهذا ينطبق أيضاً على المقالات، فقد ينثر الكاتب الدموع التي تدفع قارئاً ما للضحك الهستيري، وقد يُجهد الكاتب نفسه للبحث عن طرائف يسلي بها قارئاً حزيناً، ليُفاجأ بمن يصفه ب«ثقل الدم»، لنصل إلى قناعة مفادها أن السخرية مفهوم نسبي مهما حاولنا تقليد الأديب إبراهيم المازني أو الكاتب الأميركي مارك توين، وغيرهما من الساخرين العظماء. لما للفتوى من حساسية وارتباطها بالمقدس، ألم تخشَ من مشكلة عدم القدرة على الإلمام بالموضوع؟ وهل تتوقّع ردود فعل غاضبة؟ - الفتوى في نهاية المطاف اجتهاد بشري يحتمل الصواب والخطأ، والمجتمع جُبل على الحساسية من كل شيء لا ينبت في محمياته، أما الإلمام بمادة الكتاب فلم يشكّل معضلة بالنسبة لي، لأنني درست من العلوم الشرعية ما يؤهلني، لأن أكون طالب علم شرعي وفق المقاييس ذاتها، التي تُنتج لنا كل فترة عشرات المشايخ الجدد، ولن أجد أية مشكلة في الرد على من قرأ كتابي بتمعن، وأبدى تحفظاته بشكل منهجي، أما الغوغاء والدهماء الذين يحاكمون الكتاب وهم لم يقرأوا إلا عنوانه، فأطلع على ردود أفعالهم من باب التسلية والترفيه وليس للفائدة. بعض التأليف أقرب ما يكون إلى المغامرة المحفوفة بالمخاطر، ألا تعتقد أن مثل هذا الأمر ينطبق على كتابك؟ - انسداد الأفق في حياتنا الاجتماعية وفي ساحتنا الثقافية جعل كل محاولة وثبٍ على التعقيدات بمثابة مغامرة محفوفة بالمخاطر، ولا عجب في ذلك طالما أن الجاهل الخامل لديه سلطة مُطلقة لتقويم وزجر العامل الفاعل. تجنبت ذكر أسماء بعض العلماء والمشايخ في ثنايا عرضك لفتاواهم، فما الذي دفعك لذلك؟ - الهدف من الكتاب هو مناقشة أفكار الفتاوى، وليس التنقيب عن أخطاء وهفوات الأشخاص، وعلى رغم ذلك فإنني أشرت مرات عدة إلى إكباري وإجلالي لهؤلاء المشايخ، لأنهم كانوا صادقين مع ذواتهم، ولا أعتبر أن اللوم يوجه إليهم فهم في النهاية ضحايا لتغيرات وتحولات لا قِبل لهم بها، ومن يطلع على التراث المسيحي، سيجد أن رجال الكنيسة أيضاً صُدموا بالتحولات والتغيرات، فمنهم من كان يحرّم البيبسي والميرندا، ويكفيني أن مشايخنا التقليديين الأجلاّء كانوا صادقين في مبادئهم، ولم يتهربوا من الصدق، خوفاً من خسارة الأتباع كما هي حال مشايخ الفضائيات الذين يتلوّنون بحسب متطلبات المريدين والأتباع. تناول الثوابت الدينية بالنقد من الخطوط الحمراء، فكيف سوّلت لك نفسك تناول الفتاوى بسخرية؟ - أعتقد أن الكثير من الفتاوى قدمت نفسها بنفسها في إطار ساخر، لأنها لامست المجتمع في أدق تفاصيله، وإعراض الناس مثلاً عن فتاوى مثل تحريم التطعيم وتحريم مسلسل «طاش ما طاش» هو تعبير رمزي عن عدم الاكتراث بها، ما يعني ضمناً السخرية منها، وليس من مصدريها. ألا ترى أنك تجلب المتاعب لنفسك بالتركيز على الفتاوى الشاذة؟ - الشذوذ في الفتاوى من الأوصاف التي تُطلق على كل ما لا يروق لنا، ولو كان التركيز منصباً في الكِتاب على الفتاوى المُضحكة أو الشاذة، لتعرضت بالكثير من التحليل لفتاوى وجدت طريقها للمجتمع، من دون أن يناقشها أو يعمل بها أحد، مثل تحريم الجلوس على الكراسي، وتحريم تعدّد الموائد، وتحريم البوفيه المفتوح، وتحريم استخدام الحمام الافرنجي، إضافة إلى فتوى إرضاع الكبير. أطلق البعض حملة في «الفيس بوك» بعنوان «المطالبة بمحاكمة الكاتب البهلواني أحمد العرفج» على خلفية صدور كتابك، فما موقفك من مثل هذه المطالبات؟ - لا أهتم بالقراءات العجلى، التي تختطف اللقمة من القِدر قبل أوانها، من دون أن يسأل أصحابها عن «الطبخة»، فهؤلاء ابتلينا بهم في كل مكان، ولن أستغرب أن يصدر عنهم مثل هذا التشنج، فقد تعودت أن أقرأ مطالبات أكثر حدة، اعتراضاً على عنوان أحد المقالات، من دون أن يكلّف أحد من هؤلاء نفسه عناء القراءة، ولو قرأ هؤلاء الكِتاب، واكتشفوا أنني أستشهد بأئمة كبار مثل ابن القيم، فهل سيضعون مؤلفاته أيضاً في قفص الاتهام؟ ألا تشعر بالتخوف من ردود الأفعال على الأخبار المنشورة عن الكِتاب في الصحف والمواقع الإلكترونية؟ - الكتاب خرجت منه نسخ محدودة من المطبعة، ولم يصل إلى المكتبات بعد، ليتم تداوله بالطريقة التي تتيح للباحثين الجادين تناوله وعرضه على مائدة النقد وفق الأصول المنهجية، أما ردود الأفعال والتعليقات التي تذيلت الأخبار المنشورة حول صدوره في الصحف والمواقع والمنتديات - وإن عُدّت بالمئات - فهي تؤكد أن ثقافتنا أرضعتنا منذ الصغر مهارات استثنائية لمحاربة العناوين والأشخاص، وكيل أبشع النعوت والأوصاف لكل من نشم رائحة الاختلاف معه من دون التوغل في المضامين. يعيب عليك البعض الولع بالسجع إلى درجة التكلّف الذي يحوّله من وسيلة إلى غاية، فماذا تقول لمن يعتبر السجع من مثالب كتابك عن الفتاوى؟ - أنا ابن المدرسة التراثية، والسجع توارثته من أسلافي الفقهاء، لذا أستخدم الأسلحة نفسها التي يزخر بها التراث بعيداً عن سجع الكهان المذموم، فإذا كان الكاتب متمكّناً من اللغة، فإن السجع إضافة نوعية ومهارة يستخدمها في الوقت الذي يريد، حتى يطرد السأم والرتابة عن القارئ، وأعتقد أن الكتاب عموماً في منأى عن السجع طالما أنه يقتصر على بعض العناوين. هل ندمت على طبع كتاب الفتاوى، عطفاً على الحملة الشعواء التي يشنها عليك البعض؟ - من الصعب على الكاتب أن يرضي كل القراء إلا إذا توقف عن الكتابة، وإن كنت أندم على شيء فهو اختيار عنوان «الغثاء الأحوى»، لأنني اكتشفت بعد طبع الكتاب أن هناك كتاباً اسمه «الغثاء الأحوى» طُبع قبل 20 سنة في لبنان، يضم بعض الفتاوى الغريبة التي صدرت في أزمنة مختلفة، ولو كنت أعلم عن هذا الكتاب، لأشرت إليه في المقدمة، أو استشهدت ببعض ما ورد فيه، وها أنا بكل شجاعة، أعترف بأنني لم أطلع على هذا الكتاب لأنني لو اطلعت عليه، فإنني أملك من الشجاعة ما يجعلني أعترف لأهل الفضل بالفضل وأهل الأسبقية بالأسبقية. وكما أن الصحافيين الأميركيين هم الذين أخبرونا عن «فضيحة أبو غريب»، فها أنا أخبركم بهذا الخبر قبل أن يأتي صحافي أو ربع صحافي، ويظن أنه «جاب الذيب من ذيله»، وأتى بما لم تستطعه الأوائل من الاكتشافات.