ارتمى العسكريون الأفغان أرضاً وأخذوا يُطلقون رصاصهم الحي على أهداف مثبّة مواجهة لهم في عمق الصحراء في ولاية هلمند، جنوبأفغانستان. ثم علا هتافهم وهتاف مدرّبيهم الأميركيين. فقد أصاب معظمهم، على ما يبدو، الأهداف الماثلة أمامهم والتي يُفترض أنها تمثّل مقاتلي «طالبان» الذين سيتواجهون معهم عندما يتم نشرهم خلال الأيام المقبلة في هذه الولاية المضطربة التي تشكّل أحد أهم معاقل المتمردين. ينتمي هؤلاء العسكريون إلى وحدة تُسمّى «شرطة النظام العام الوطني الأفغاني»، وهي تتبع وزارة الداخلية مثلها مثل الشرطة العادية لكنها تضم أفراداً لديهم تكوين علمي (القراءة والكتابة على أقل تقدير) ويُفترض أنهم غير فاسدين، بعكس كثيرين من زملائهم أفراد الشرطة الأفغانية الذين تنظر إليهم شريحة واسعة من المواطنين على أنهم فاسدون أو مرتشون. وقد كان أفراد هذه الوحدة، وعددهم 316 شرطياً، يتلقون دورة تدريب سريعة مدتها 10 أيام فقط قبل نشرهم في دوائر مرجة وناد علي وسانغين، في هلمند، لفترة شهرين يعودون بعدها إلى مقر قيادتهم في ولاية بكتيا، في جنوب شرقي أفغانستان. ويراهن الأميركيون على أن نشر هؤلاء، وهم من ولايات غزني وبكتيا وكابول، يمكن أن يشكّل عنصراً مساعداً يشجّع شبان هلمند على التطوّع للانخراط في الشرطة المحلية تمهيداً لتسليمهم مسؤوليات الأمن في ولايتهم. ويقول أحد قادة هذه الوحدة المتدربة الكولونيل شاه خان هوتك، في لقاء مع «الحياة» في منطقة مجاورة لمعسكري «باستيون» البريطاني و «لذرنك» الأميركي في صحراء هلمند، إن جنوده يتطلعون إلى بدء مهماتهم في مرجة وناد علي وسانغين، وهي مناطق ما زالت قوات التحالف الغربي تواجه صعوبات شديدة في حفظ الأمن فيها. وشدد على أن أفراد قوته مدرّبون عسكرياً لكنهم يخضعون حالياً فقط لدورة سريعة قبل نشرهم على الأرض. وشدد على أن هؤلاء العسكريين (وهم رتباء) ينتمون إلى إثنيات أفغانية مختلفة، إذ أن بينهم البشتون والطاجيك والهزارة والأوزبك، على رغم أن ولاية هلمند التي سينتشرون فيها يغلب عليها البشتون، عصب التمرد الذي تقوده حركة «طالبان». وتضم شرطة النظام العام أربعة ألوية في العاصمة كابول وبكتيا (الجنوب الشرقي) وقندهار (جنوب) وهرات (غرب) ويبلغ عديدها خمسة آلاف جندي يمكن نشرهم في أي ولاية أفغانية، بعكس الشرطة المحلية التي ينتشر أفرادها في منطقتهم فقط. ولا تعاني شرطة النظام العام من حالات فرار مرتفعة لعناصرها، بعكس الشرطة المحلية، ربما لأن رواتب أفرادها مرتفعة مقارنة برواتب زملائهم المحليين، إذ أنهم يتقاضون نحو 400 دولار شهرياً بما في ذلك «علاوة» الانتشار في «مناطق خطرة»، في مقابل 165 دولاراً لأفراد الشرطة المحلية. ويبدو أن نشر هؤلاء العسكريين في هلمند يدخل ضمن استراتيجية أميركية تهدف إلى الإظهار للأفغان أن قواتهم الذاتية هي التي ستتولى شؤونهم في نهاية المطاف بعد طرد مقاتلي «طالبان» من الولاية. كما أن الأميركيين يعتقدون بلا شك أن نشر هؤلاء الشرطيين الجدد «غير الفاسدين» سيُظهر للمواطن العادي أنه بات في إمكانه اللجوء إليهم للشكوى من دون أن يخشى أحداً، وهو أمر لم يكن سهلاً في السابق مع الشرطة المحلية المكروهة بسبب الفساد المستشري في صفوفها وظاهرة تعاطي أفرادها المخدرات. ويأمل الأميركيون، على ما يبدو، في أن يشجع هذا الوجود الرسمي الأفغاني المواطنين على الانخراط أكثر في مؤسسات الدولة، بما في ذلك الانضمام إلى الشرطة المحلية التي ما زالت تعاني، على ما يبدو، نقصاً شديداً في نسبة الراغبين في الانضمام إلى صفوفها. ولعل أكثر الأمثلة وضوحاً على فداحة هذه المشكلة هي دائرة مرجة التي «حررها» الأميركيون من قبضة «طالبان» في آذار (مارس) الماضي بعدما كانت مقراً أساسياً للمتمردين وصلة الوصل بينهم وبين تجّار المخدرات. ففي الشهور الثمانية التي انقضت على دخول الأميركيين مرجة، لم تتمكن الإدارة الجديدة التي نصّبتها الحكومة في هذه الدائرة سوى من تجنيد 91 شرطياً من السكان المحليين. وبما أن مرجة تضم ما بين 30 إلى 40 ألف ساكن، فإن رقم ال 91 شرطياً قد يعني إما أن السكان ما زالوا يخشون «انتقام» حركة «طالبان» إذا ما أيّدوا الحكومة الأفغانية، وإما أنهم فعلاً من مؤيدي «طالبان» ويريدون خروج القوات الأجنبية من أرضهم. لكن الكولونيل تيري والكر، وهو ضابط متقاعد خدم 34 سنة في المارينز ويُشرف حالياً على عملية تدريب العسكريين الأفغان في صحراء هلمند، يلفت إلى أن القوات الأميركية حققت نجاحات كبيرة بعد عام واحد من بدء انتشارها في هلمند التي كانت في السابق تخضع فقط للقيادة البريطانية (عديد البريطانيين حالياً أقل من عشرة آلاف جندي في مقابل 20 ألفاً من المارينز الأميركيين). ويعتبر والكر أن «من الأفضل عدم وجود شرطة أفغانية بالمرة إذا كان عناصرها غير مدرّبين أو فاسدين»، كما كان الحال إلى وقت قريب في كثير من قطاعات الشرطة المحلية في هلمند. ويضيف: «إننا اليوم، بعد سنة من العمل، نملك فعلاً شرطة أفغانية قادرة على أن تقاتل وأن تنقل المعركة إلى صفوف العدو». ويشير إلى أن الأميركيين يدربون عناصر الشرطة ليس فقط على تقنيات القتال، بل أيضاً على حكم القانون وقيادة العربات العسكرية (يسقط عدد كبير من الضحايا جراء حوادث السير) والإسعافات الطبية وأيضاً على القراءة والكتابة. ويقول والكر، الذي سبق أن خدم في العراق وشارك في جهود «مكافحة التمرد» هناك ومضى 18 شهراً على وجوده في أفغانستان، إن تدريب هؤلاء العسكريين الأفغان يساعد في تسريع نقل عملية تدريب قوات الأمن الأفغانية إلى الأفغان أنفسهم، بحيث تتولى الوحدات الأفغانية التي درّبها الأميركيون تدريب الوحدات الأفغانية الجديدة، وهكذا دواليك حتى تصبح العملية برمتها في يد الأفغان. ويضيف: «إنني أرى النجاحات التي نحققها في عيون العسكريين الأفغان الذين ندربهم. أراها عندما يتمكنون من القراءة والكتابة، وعندما يعرفون مهارات قيادة السيارات، وعندما يعرفون حكم القانون...». ويتحدث الكولونيل في المارينز عن عملية تجنيد شبان مرجة للانخراط في الشرطة المحلية، قائلاً إن الأميركيين بنوا ثلاثة مراكز جديدة للشرطة ويعملون على تجنيد مزيد من رجال الشرطة من أهل المنطقة. ويتابع: «إننا نريد أن ينضم أسود مرجة إلى شرطة منطقتهم لأنهم يعرفون أكثر من غيرهم من هو المتمرد ومن هو غير المتمرد». ويلفت إلى أن عملية تجنيد العسكريين الجدد تتألف من مراحل عدة لضمان عدم «تغلل» المتمردين في القوة الجديدة، إذ يتطلب الانضمام إلى الشرطة تعهد مجلس محلي للشورى من أعيان المنطقة أن الشرطي الجديد ليس من «طالبان»، كما يتطلب أخذ بصمات المتطوع البيومترية (يسمح ذلك بكشف ما إذا كان مطلوباً أو سبق أن تم اعتقاله). ويمكن للمتطوع الجديد أن ينضم إلى الشرطة إذا ما كشف عن انتمائه في السابق إلى المتمردين وتعهد أن يعمل في المستقبل لمصلحة الحكومة الأفغانية ويحترم دستور بلده. ويقول والكر إنه تعلّم من تجربته في الأنبار أهمية تجنيد مواطنين محليين في «مكافحة التمرد»، ويكشف أن الأميركيين يعملون حالياً على تكرار تجربة «الصحوات» العراقية في أفغانستان من خلال الاتصال بممثلي القرى النائية وتشجيعهم على تكوين فرق «دفاع ذاتي» تكون خاضعة لوزارة الداخلية ومرتبطة بالسلطات المحلية. ويسعى الأميركيون حالياً من خلال الاتصال بقادة من أيام الجهاد الأفغاني إلى تشكيل قوة دفاع ذاتي من نحو 30 ألف فرد من سكان القرى النائية في الجنوب خلال فترة الشهور الستة المقبلة. ويشدد والكر على أهمية «بناء قوات الأمن الأفغانية الذاتية للدفاع عن البلد وضمان أن لا يستخدمه الإرهابيون... إننا لا نستطيع الفوز إذا لم يكن الأفغان يريدون أن يقاتلوا من أجل بلدهم». لكن والكر يبدو متفائلاً، إذ يقول إن «نجاحنا مضمون... لقد فزنا في المعركة»، ويشير إلى «أننا تعلمنا من الأنبار (في العراق) أن الفوز ممكن. الأنبار كانت قلب التمرد السني وقاعدة العشائر المتمردة. لكن تنظيم القاعدة بدأ بقتل الناس المحليين، ثم ظهر عبدالستار (أبو ريشة) ووقف في وجههم وبدأوا (العشائر والصحوات) يقولون للأميركيين ساعدونا في التصدي للقاعدة. والآن يتكرر الأمر ذاته في هلمند التي يأخذها المتمردون قاعدة لهم ولتجّار المخدرات. عندما يوقن المواطنون المحليون أنك (الجندي الأميركي) مستعد أن تموت من أجلهم فإنهم سيغيّرون رأيهم بلا شك في التمرد». ويدافع والكر عن سياسة «الانخراط» بين الجنود الأميركيين وزملائهم الأفغان بما في ذلك حمل الأسلحة المحشوة بذخائر حيّة، قائلاً إن لا بد من وجود ثقة بين الطرفين. وسألته «الحياة» عن حادث وقع قبل أيام فقط في قاعدة أميركية في سانغين وأطلق فيها شرطي أفغاني النار فقتل اثنين من مدرّبيه الأميركيين، فرد قائلاً إن التحقيق الجاري سيكشف دوافع هذا «العمل الإجرامي». لكنه زاد: «دعني أؤكد لك: لا شيء، لا شيء أبداً، يمكن أن يوقف أميركا وحلفاءها عن إلحاق الهزيمة بالإرهابيين والمتمردين». من جهته، يؤكد الكولونيل في المارينز بول لابادين، المسؤول في فرق إعادة الإعمار في هلمند، إن الأميركيين حققوا فعلاً أمراً بالغ الأهمية في الولاية وهو «زيادة مستوى الاستقرار الأمني الذي يسمح للمواطنين بأن يكونوا على احتكاك أفضل مع حكومتهم. يمكن رؤية الفرق الذي تحقق الآن على الأرض. إننا نُحقق تقدماً، لكن ما زالت هناك مشاكل». ويوضح أن الأميركيين يتصلون بالمواطنين الأفغان ويعرضون تقديم مساعدات لمن يريد أن يقوم بمشاريع تجارية، وذلك بهدف تحريك الاقتصاد وإيجاد فرص عمل للسكان المحليين، ما يقلل من فرص التحاقهم بالتمرد. لكنه يُقر بأن بعض الأفغان في هلمند ما زال يخشى «انتقام طالبان» إذا ما وافق على قبول مساعدة أميركية. ويضيف رداً على سؤال ل «الحياة»: «نعم، بعض الناس ما زال متردداً في قبول المنح (الأميركية) على رغم موافقته المبدئية على ذلك. لقد رأينا محلات أقفلها أصحابها خشية تعرضهم للانتقام. رأينا أطفالاً يتم قتلهم (بسبب التحاقهم بمدارس بناها الأميركيون). لكن هذا لا يعني أن علينا أن نتوقف عن محاولة تقديم المساعدة للمواطنين الأفغان لتحسين حياتهم... إننا نربح المعركة بلا شك، لكننا نحتاج إلى وقت». (غداً حلقة ثالثة)