لا يمكنك أن تخرج من قراءة كتاب «يوميات عام سيئ» للجنوب إفريقي ج. م. كويتزي، إلا ولديك شعور بالارتباك، لأنك لا تستطيع القطع بأنه عمل روائي، ولا يمكنك في الوقت نفسه الوقوف به عند حدود مجموعة المقالات التي احتلت الجزء الأول، أو اليوميات التي اشتمل عليها الجزء الثاني، ومهما حاولت أن تقنع نفسك بالحيلة الروائية التي غلَّف بها كويتزي نصه إلا أنها تظل أضعف من القدرة على تحمُّل كل هذا الثقل في السرد. قسَّم كويتزي بياض الصفحة إلى ثلاثة أقسام، في القسم العلوي الذي احتل ما يزيد عن نصف الصفحة جاءت المقالات واليوميات، وفي القسم الذي يليه جاء صوته هو كراوٍ يتحدث عن مساعِدته الجميلة التي استخدمها لكتابة مقالاته على الكومبيوتر، وفي الجزء السفلي جاء صوت المساعِدة آن وصديقها آلن، وهما يبرزان رأيهما في السيد «ك» ومجموعة مقالاته المعنونة ب «آراء تنضح بالقوة»، ولأن المقالات واليوميات كانت الأكثر استحواذاً على مساحات البياض، فقد ظلت الأكثر سطوة على محور الحديث الدائر بينهما، في حين توقف صوت الراوي «ك» عند وصف علاقته بمساعدته وأسباب اختياره لها وتدرج العلاقة بينهما من النفور إلى الفتور ثم الإعجاب وربما العشق، حتى أنها تقرر في نهاية النص أن تعود من المدينة التي أقامت فيها كي تودّعه إلى مسقط رأسه في جنوب إفريقيا. لا يخالجك شك في أن الكاتب في هذا العمل، الصادرة ترجمته العربية أخيراً عن سلسلة الجوائز- الهيئة المصرية العامة للكتاب، بتوقيع أحمد هلال ياسين، لا يكتب عن نفسه، فكَمُّ التقاطعات بينه وبين الشخصية الرئيسة لا يدع مجالاً لهذا الشك، فقد ولد «ك» (لا نعرف إن كان اختصاراً لكويتزي أم أنه استلهم الرمز من عنوان روايته الأشهر «حياة وزمن مايكل ك») في جنوب إفريقيا عام 1934 المعروف أن كوتسي مواليد 1940 ، وأصبح اسماً كبيراً في عالم الأدب، حتى أن ناشراً ألمانياً طلب من أهم ستة كُتَّاب من بينهم ك أن يكتبوا عما يعن لهم من موضوعات، شريطة أن تتسم آراؤهم بالقوة، ومن ثم ف «ك» وكويتزي كاتبان روائيان، لهما رواية بعنوان «في انتظار البرابرة»، وكلاهما أقام منذ سنوات في أستراليا، ويفضل حياة العزلة والتأمل، ويكره التفرقة العنصرية والهيمنة الأميركية على العالم، وثمة عدد من التقاطعات والتشابهات التي ربطت بينهما على طريقة (انتبه أيها القارئ، فإنني أكتب عن نفسي، لكن ما تقرأه ليس رواية ولا مذكرات بقدر ما هو دخول إلى ما يختلج ذهني في هذا العام السيئ). امتازت آراء الكاتب في مقالاته بنظرتها المختلفة إلى الأمور، فالإرهاب لم يأت إلا كنوع من الدفاع عن الذات، فليس هناك إرهابي يسعى إلى إزهاق روحه إلا إذا كان ذلك الحل هو الوحيد أمامه للإعلان عن وجوده في مواجهة قوة منحت نفسها الحق في كل شيء، أما الديموقراطية الغربية فنوع من الدكتاتورية التي يتم تداولها بين حزبين، ولا معنى للفرد وحريته ورغباته في وجودها، والعار القومي هو أن يتم قتل آلاف المدنيين العُزَّل من أجل تحقيق ديموقراطية لا تقوم إلا في رأس أصحابها، وهو العار الذي لن يجلل مرتكبيه وحدهم، ولكنْ شعوبَهم بكاملها ولأجيال عدة متتالية. وهكذا تجيء آراء الكاتب قوية إن لم تكن صادمة، ليس بالطبع لشعوب العالم الثالث المستباح في ظل الطغيان الغربي، لكن لأبناء هذه الشعوب البيضاء التي سلمت رأسها لمخيّلات ميكافيلي السياسية، وهي في مجملها يمكن اعتبارها نقداً للعقل الغربي، إن لم تكن طعنات واضحة من رجل طبقت شهرته الآفاق، ومن ثم فهي تحاصر هذه العقلية في شتى مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية عبر واحد وثلاثين موضوعاً. في القسم الثاني من الكتاب والمعنون ب «يوميات» مجموعة أخرى من الآراء، لكنها لا تتمتع بقوة آراء القسم الأول وفلسفته، إذ إنها في أغلبها مشاهدات يومية تثير في نفس الكاتب أشياء مرت في شبابه أو صباه، وهي أقرب إلى قصص قصيرة لم يرد لبعضها أن يكتمل ولم يرد للآخر أن يأخذ ما يستحقه من الحبكة الفنية، حتى أنه قدم مقترحاً لقصة قصيرة متمنياً أن يقوم غيره بكتابتها، لأن شيخوخته لن تسمح له بذلك، وهذا القسم يرتبط بدرجة ما بالجزأين السفليين من الصفحة وإن بشكل غير مباشر، فبعض هذه التأملات جاء من خلال حواراته مع آن، وبعضها كتبه انطلاقاً من ضرورة الربط بين الحوارات وما يسجله من يوميات، وهو أمر منطقي على مستوى السرد الحواري بين (ك، آن، آلن)، لكنه سرد لا يتمتع بالبناء الدرامي الذي يتطلبه عمل روائي كبير، بقدر ما يتمتع بالطول المناسب للأعمال القصصية القصيرة وتتحول الحوارات إلى مونولوغ أو خطبة يلخص فيها صاحبها آراءه وحياته، ولا نشعر بسطوة وجود السرد كتقنية روائية إلا في الجزء الأخير من الهامش المخصص ل «آن»، إذ تتواتر الأحداث والشخصيات والمشاهد والمواقف والأماكن. يمكننا القول إن الكاتب في هذا العمل يخون تقاليد النص الروائي، ويفتح أفقه لاستيعاب فنون الكتابة عموماً، بدءاً من المقال واليوميات والقصة القصيرة والمسرحية القائمة على شخصيات ثلاث ومؤلف يقبع في مقدمة المسرح معلناً آراء صادمة في وجه الجمهور المغيّب، لكنها خيانة أقرب إلى الحنين للماضي، حيث كتابات ديستوفيسكي وتولوستوي وموسيقى باخ وشتراوس وغيرهم ممن استهووه في طفولته، ومن ثم خرج العمل أشبه بأعمال صامويل بيكت التي نال كويتزي درجة الدكتوراه عن التحليل السردي لها عام 1969 من جامعة تكساس.