في عودتي من المدرسة أمرّ ببيتها. أرى الباب موارباً. ألمح يدها بالخاتم الذهبي. تشير لي. أدخل. تأخذني في حضنها. ويكون طبق المهلبية قريباً من يدها. أتناوله. تسألني: عندك واجب النهاردة؟ كثير. كنت قعدت نتغدى سوا. المحشي اللي بتحبه؟ أرفع الحقيبة إلى ظهري وأقول: أنت عارفة بابا لما أتأخر. طيب. سلّم لي على ماما. تزوجت مرتين. الأول كان بقالاً. عاشت معه خمس سنوات، وطلقها لأنها لا تنجب. جاءت بعفشها لتقيم عندنا. أخذت الحجرة التي أنام فيها. نصبت سريرها مكان فرشتي وكانت لحافاً قديماً فوق حصيرة. وأنا كنت مسروراً لأنني سأنام على سرير. سألتني قبل أن أصعد إليه إن كنت أبوّل على نفسي وأنا نائم؟ وصحت بها: جرى أيه يا عمة. أنا كبير. طب أغسل رجليك قبل ما تطلع السرير. كومت باقي العفش في ركن الحجرة، وبسطت فوقه ثلاث ملاءات. تنفضها كل يومين من الغبار، وتكنس حول الركن. ضاق أبي بوجودها. كان يشخط في وجهها ويزعق: غوري من وشي. وتراضيها أمي: معلهش يا أختي. ما يقصدش. أنا ما بزعلش منه. طول عمره كده. من صغره ولسانه أطول منه. ومرات حين يكون أبي في الخارج، تنزل عفشها من رصته، وتضعه متجاوراً. تمسح ما عليه من غبار، وتعيد اللمعة إليه. وتكون متربعة أمام كوميدينو وقد أخرجت أدراجه لتنظيفها وتراني. تقول مبتسمة: لما يتفرش بيبقى شكله حلو. أنت شفته وهو مفروش؟ وأقول إنني لم أره. خسارة. كان نفسي تشوفه. وتستمر وقتاً في قعدتها وقد مالت رأسها جانباً وشردت نظرتها. تنبهها أمي بندائها. وتقول: حاضر. جاية حالاً. ترص العفش مرة أخرى في الركن، وتغطيه بالملاءات. تمر بي مضطربة إلى خارج الحجرة. ويمر عام وآخر ويأتيها الزوج. رجل عجوز محني الظهر، يتكئ على عصا بمقبض من العاج. يمشي ثلاث خطوات ويتوقف ليأخذ نفساً طويلاً. كنا نقلد مشيته ونحن أولاد. أراه وأنا عائد من المدرسة يقعد على دكة أمام دكانه. يتاجر في الحبوب، وغلام يقوم بالبيع للزبائن. بيته كبير ملاصق للدكان، أمرّ به في عودتي، وتشير لي عمتي. تزوج كل أولاده السبعة، وراح كل لحاله. وحده في البيت، كان يتوه فيه عندما يخرج من غرفة نومه، وتبحث عنه عمتي - كما حكت - مهتدية بصوته. رأى أولاده أن يأتوه بامرأة. خادمة ترعى شؤونه. رفض: خادمة لأ. كان يريدها زوجة على سنّة الله ورسوله. تعرّيه وتحممه وتدعك ظهره بزيت الكافور. ورفض أولاده. هم لا يريدون زيادة عدد الورثة. والزوجة وحدها ترث الثمن، والعجوز يملك الكثير. وقدروا لبقائه حياً عاماً ونصف عام. والغريب أن تقديرهم جاء صحيحاً. قالوا لأولاد الحلال الذين يسعون لإصلاح الحال انه سيقضي العام ونصف العام في أي وضع. جارة قديمة تساعده من وقت لآخر وتغسل له هدومه. وتتناوب زوجاتهم على الذهاب إلى البيت لترتيبه. واستمر الوضع شهراً حتى فوجئوا بزواجه من عمتي. كان أولاد الحلال هم من سعوا لهذا الزواج في تكتم. وذهب اثنان لزيارة عمتي، وطلبوا منها أن توقع على تنازل عن حقها في الميراث، كان معدّاً في ورقة معهما. رفضت عمتي وقالت إنها لا تريد ميراثاً. ومن يأخذه بعد موتها؟ والحل؟ الحل أفضل عايشة في البيت لغاية ما أموت. ويكون بيتي. وتزوروني. تأملا وجهها، وربما رأيا أنها لن تعمر طويلاً. كانت صحتها في النازل. شاخت سريعاً، واشتد نحولها. تستند الى الحائط مثل زوجها في كل مرة تقوم من قعدتها. وافقوا على ما طلبت، ووفوا بالعهد. كانوا يزورونها بعد موت زوجها وقد تنازلت لهم عن الميراث. وأحياناً تبيت واحدة منهن معها عندما يشتد عليها التعب. ثلاثة شهور بعد رحيل زوجها وماتت.