أصدر «برنامج الأممالمتحدة الإنمائي» حديثاً تقريره العشرين عن التنمية البشرية في العالم، أي بعد 20 سنة على صدور أول تقرير له عام 1990 الذي بدأه بعبارة «ان الإنسان هو الثروة الحقيقية لأي أُمة». وبذلك يضع البرنامج نهجاً جديداً في الفكر الإنمائي مثل نقطة تحول مفصلية في مفهوم التنمية، عندما يعتبر ان رفاه الإنسان ورفع مستواه أساس التنمية وجوهرها. لذلك عوضاً عن التركيز على معدل نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي لقياس التقدم الاقتصادي، يقترح تصميم دليل للتنمية البشرية يركز على ثلاثة عناصر هي: الصحة والتعليم والحد الأدنى للدخل. ويقدم التقرير الجديد تقويماً منهجياً لأداء عناصر التنمية البشرية على مدى 40 سنة، (1970 - 2010)، وهو أوسع تحليل يتضمنه تقرير للتنمية البشرية منذ صدوره. ويظهر التقرير ارتفاع المتوسط العالمي لقيمة دليل التنمية البشرية، ويشمل متوسط العمر ومتوسط سنوات الدراسة والدخل، بنسبة 18 في المئة منذ عام 1990 و41 في المئة منذ عام 1970. واستفادت من هذا التقدم البلدان كلها تقريباً، فمن أصل 135 بلداً خضعت للدراسة وتضم 92 في المئة من سكان العالم، تراجع دليل التنمية البشرية في ثلاثة بلدان أفريقية فقط مقارنة بعام 1970. ويصنف التقرير ثلاثة بلدان عربية هي الإمارات وقطر والبحرين بأنها حققت تنمية بشرية مرتفعة جداً وستة بلدان هي الكويت وليبيا والسعودية وتونس والأردن والجزائر بأنها حققت تنمية بشرية مرتفعة، وبلدين هما مصر والمغرب بأنهما حققا تنمية بشرية متوسطة، بينما يصنف اليمن وجزر القمر والسودان من ضمن الدول التي حققت تنمية بشرية منخفضة. وفيما لا يزال التباين كبيراً في مستويات الدخل بين البلدان، يظهر مؤشر التنمية البشرية تقارباً بينها، إذ تمكنت بعض البلدان الفقيرة من اللحاق بركب الدول الغنية. وحلت في المرتبة الأولى من حيث التحسن في دليل التنمية البشرية بلدان حققت معجزات في نمو الدخل مثل أندونيسيا وكوريا الجنوبية والصين. وثمة دول حققت تقدماً في التنمية البشرية أكثر من نمو الدخل مثل تونس وعمان ونيبال. ويبيّن ان التقدم في الصحة والتعليم هو الذي يحرك النجاح في التنمية البشرية. ولم تحرز البلدان كلها التقدم بالسرعة ذاتها ولا تزال الفوارق شاسعة. ويخرج التقرير باستنتاجات تشير إلى ضعف الارتباط بين معدل النمو الاقتصادي والتحسن في الصحة والتعليم في البلدان ذات المستوى المتوسط والمنخفض في التنمية البشرية، الأمر الذي يعتبره التقرير مؤشراً إيجابياً. فالتقدم التكنولوجي وتغير الهياكل الاجتماعية سمحا لكثير من البلدان بتحقيق تقدم في التعليم والصحة بتكلفة متدنية. وهذا يعني ان التنمية البشرية ممكنة حتى لو تعذر النمو الاقتصادي السريع. ويستنتج التقرير ان أنماط التنمية البشرية ومحركاتها كثيرة وتختلف أهميتها باختلاف الدول، لذلك لا يمكن التوصية بنمط واحد للدول كلها. كذلك تختلف السياسات والإصلاحات المواتية للتقدم. ويقر التقرير بأن التنمية البشرية لا تقتصر على الصحة والتعليم والدخل بل تشمل المشاركة في رسم ملامح التنمية والإنصاف والاستدامة. وتطرح هذه الحال تحدياً كبيراً حيال كيفية التفكير بالتنمية البشرية ومقاييسها والسياسات الآيلة إلى تحسين نتائجها وعملياتها. ويعترف التقرير بهشاشة الإنجازات العالمية في مجال التنمية البشرية، ويشير إلى الخراب الذي أحدثته الأزمة المالية العالمية عندما جردت 34 مليون شخص من وظائفهم وأسقطت 64 مليوناً آخرين إلى ما دون خط الفقر. ولأجل تطوير عمليات قياس معدلات التنمية البشرية في شكل مستمر للتوصل إلى مقاييس أكثر دقة، يعتمد تقرير هذا العام طرقاً جديدة لقياس عدم المساواة والفوارق بين الجنسين والفقر. وبذلك يقدم دليل التنمية البشرية بأبعاده الثلاثة: الصحة والتعليم والدخل في صيغة منقحة تظهر فروقاً كبيرة عن النتائج غير المعدّلة. وفي محاولة لتحديد الرؤية المستقبلية لموضوع التنمية البشرية، يؤكد التقرير ان نهج الحل الواحد لجميع المشاكل نهج غير صالح ولا يمكن التقرير توجيه عملية صنع القرارات في الدول. لكنه يشير إلى بعض العوامل الأساسية التي يمكن على أساسها تقويم السياسات المختلفة وتشمل تبني مبادئ معينة ومراعاة خصوصية المواقع بالنسبة الى كل دولة وإحداث تحول في السياسات العالمية. ويختتم التقرير بثلاث أولويات يريد العمل عليها في المستقبل هي: تحسين تحليل البيانات الإحصائية، إيجاد بديل عن المنهج التقليدي لدراسة التنمية، والتعمق في فهم قضايا عدم المساواة والتمكين والاستدامة والتعرض للمخاطر. بعد هذا الاستعراض السريع لما جاء في تقرير التنمية البشرية العشرين، ثمة ملاحظات يمكن اعتبارها جزءاً من التحديات التي عليه مواجهتها في المستقبل وهي: 1 - ينأى التقرير بذاته عن التوصية بالسياسات باعتبارها جزءاً من خصوصيات كل بلد على حدة. ولكن لا بد من ان يأخذ التقرير هذا الموضوع في الحسبان وبجدية في المستقبل. فتحسين التعليم والصحة لا يمكن ان يكون مستداماً في حال تناولته مناهج وبرامج منفصلة عن السياسات العامة للدولة. ولا شك في ان منهج التنمية المتوازنة، أي التنمية التي تهتم بالتوزيع الجغرافي في مشاريعها وأهدافها وتربط بين الريف والمدينة كانت هي الأساس في تقدم الدول المتقدمة في العالم اليوم ورخائها. 2 - يرى التقرير ان ضعف معامل الارتباط بين نمو الدخل وتحسن الصحة والتعليم خبر سار، لكنني أرى فيه مشكلة خطيرة يواجهها اليوم كثير من الدول النامية، وهي ارتفاع معدلات البطالة بين المتعلمين بسبب عجز مستوى الأداء الاقتصادي عن تأمين فرص العمل المناسبة لهم، الأمر الذي يزيد من إحباط الشباب، ويدفعهم إلى الهجرة من بلدانهم، بما فيها الهجرة غير الشرعية، ما يعني ان المستفيد النهائي من ارتفاع معدلات التعليم ليس البلد الذي يهتم بزيادة معدلات التنمية البشرية وإنما بلدان أخرى. 3 - يهتم دليل التنمية البشرية بالكمية ولا يتناول النوعية بينما تحتاج الدول النامية إلى نوعية التعليم أكثر منه إلى كمية التعليم. 4 - لم يتناول دليل التنمية البشرية إلى حد الآن مواضيع مهمة مثل الإتجار بالأطفال والإتجار بالنساء وتفشي المخدرات بين الشباب، وهي ظواهر تطورت في شكل مخيف خلال السنوات ال 20 الماضية. 5 - يعتبر التقرير تحسين تحليل البيانات الإحصائية إحدى أولوياته في المستقبل، لكن لا بد له من ان يسعى أيضاً إلى تحسين نوعية البيانات الإحصائية التي تقدمها الدول، فمن دون بيانات إحصائية جيدة، لا يمكن التعويل على نتائج التحليل. لا بد من الاعتراف بأن نهج التنمية البشرية وما ابتكره من مفاهيم وأدوات بحثية وتحليلية لم تكن معروفة أو على الأقل مطبقة سابقاً، كان له أثر عميق في ثقافة جيل كامل من الباحثين وواضعي السياسات وصناع القرار ونشاطات المنظمات الدولية. كذلك وضع الحكومات وجهاً لوجه أمام استحقاق الإدلاء بمعلومات دورية عن إنجازاتها في مجال التنمية البشرية، ما ألزمها باتخاذ إجراءات وتبني برامج بما يتيح لها تحقيق بعض الإنجازات في هذا المجال. * كاتبة متخصصة في الشؤون الاقتصادية