يختلف الباحثون في تحديد مفهوم القيم، بحسب اختلاف المرجعية الفكرية لكل منهم، ويتفقون على أن القيم مجموعة من الأحكام المعيارية المتصلة بمضامين واقعية وسلوكية تتشربها نفس المرء ويعيها فكره، ولا شك في أن قيم المسلم تنبع عن أصلين متينين، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويكتنز الحج كثيراً من القيم التي يتربى عليها أفراده في الأيام المعدودة، من خلال ما يؤديه الحاج من أركان وواجبات ومستحبات، وما ينكف عنه من محظورات. إن مدرسة الحج تزخر بكثير من القيم لأفرادها الحجيج المنضمين في أروقتها، إذ إن هذه العبادة رمت إلى قيمة الوحدة التي تبلورت لدى الحاج عبر سلوكياته وممارسته في كل المناسك والشعائر، يمدها الإيمان بدفقاته، وتربيها شعائر الزمان والمكان والملبس في نفس الحاج، لأن الحجاج وقفوا على صعيد عرفات مع ما بينهم من اختلاف الألسنة والألوان، يبتغون فضل ربهم ورضوانه، لبسوا زياً واحداً ووقفوا في مكان واحد، والتزموا بمكان واحد ويعبدون رباً واحداً ويقتفون سنة نبي واحد، وهذه هي الوحدة التي لم ير الكون وحدة تماثلها أو تباريها، ولكن هل فقه الحاج هذا المقصد من خلال نسكه؟ ولو فقهه لما بقيت نزاعات ولا طائفية، ولولى زمان العنصرية والإقليمية، ولانتشر التعاون والتآزر، وتصافت القلوب واجتمعت كاجتماع الأبدان على صعيد عرفات. لقد ربى الحج أفراده على السلام بدءاً من إهلالهم وانتهاء بطوافهم الوداع قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ). لقد جعل الله بيته مثابة لناس وأمناً من دخله سلم من الأذى حتى لو كان حيواناً أو جماداً، فلا قول نهي ولا عمل بغي ولا فسوق ولا جدال ولا صيد ولا تنفير ولا قطع شجر ولا أخذ لقطة، ولكن العجيب أن ينكف الحاج عن تنفير الصيد وقطع الشجر ولا ينكف عن إيذاء الحجيج وفد الله الذين هم من شعائر الله، وقد نهى الله عن إحلالهم فقال: (لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام)، وما السبب في عدم اجتناب البعض الشجار والعراك ورفع الأصوات وكأنه في حلبة صراع أثناء نسكه وقبل مغادرته المشاعر. أما قيمة التكريم، فقد سعى إليها الحج في فرضيته، إذ انه عبادة مشروطة بالاستطاعة المادية والمعنوية، وفي هذا تأكيد على تكريم المسلم في كل أمره في إقامته وظعنه، وفي حياته وبعد مماته، وليت هذه القيمة تنعكس على بعض الحجيج الذين لم يدركوا هذا المقصد السامي حين يستغلون موسم الحج للتقتيات على صدقات المسلمين وأموال المستضعفين، واللهث وراء الزهيد في ظاهرة مؤذية تعكس أداء الركن الخامس بلا استشعار معانيه. وفي الحج يتجلى استشعار موقف القيامة وعرصات اليوم الآخر، لأن اجتماع ملايين البشر على بقعة صغيرة بلباس واحد مزدحمين يذكر المؤمن بالمثول أمام الله ليس معه إلا رحمة ربه وما قدمه بين يديه من عمل، والمتأمل لمطلع سورة الحج، يرى تذكير الله للمسلم بالموقف، وفي هذا شحذ لهمة الحجيج على ضرورة التوبة والندم، وعدم الاستمرار على التفريط، بعد أن عاش المسلم أجمل لحظات عمره الإيمانية، وتنفس نسماتها الروحانية، وتطلع إلى ميلاد جديد «خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه». والحج مؤتمر إسلامي عالمي يجتمع فيه ملايين البشر من كل أنحاء العالم، وهذا المؤتمر ليس طقوساً دينية منفصلة لكل فرد على حدة، بل هو حركة منظمة تنتظم المجتمع المسلم بكامله منذ محطة المغادرة وإلى محطة الوصول ومهوى الأفئدة، وفيه فرصة لاجتماع الرؤساء والعلماء وأصحاب القرار لتدارس أحوال المسلمين وقضاياهم، والسعي لجمع صفهم وتوحيد كلمتهم، تحيطهم دعوات المسلمين من ورائهم، ويقوي عزمهم ما يرونه ماثلاً أمام أعينهم من الاجتماع ولوحدة. إن الحج مختبر ووعاء يعكس رقي العالم الإسلامي أو انحطاطه، لأن من خاض تجربة الحج يخرج أنه لا منظم لسلك الحجيج مثل تنظيم أفكار الحجاج أنفسهم مهما بذلت الدولة والسلطات من جهد مشكور، وأن الحاج إذا لم يعِ مقاصد الحج وقيمه لا شك أننا سنرى سلوكيات مؤذية نربأ بآمين بيت الله عنها في أثناء نسكهم وبعده، ما يؤكد ضرورة اعتماد مادة مقاصد العبادات في مناهج التعليم، وضرورة تبني وزارة الشؤون الإسلامية بالتعاون مع وزارة الحج وكل الوزارات الأخرى مشروعاً توعوياً بكل اللغات يهدف لتربية فكر الحاج، وتفقيهه بمقاصد الحج وقيمه، فيرجع بعد أن أنهى حجه بقيم حضارية تؤثر في مسيرة حياته وسلوكه. * داعية وأكاديمية سعودية. Nwal_al3eeed @ hotmail.com