يتخطى كتاب «الكاتب علامة سؤال» (الدار العربية للعلوم وأزمنة ومنشورات الاختلاف) مسألة الكلام حول أسرار الكتابة وطقوسها، أو التطرق إلى المواضيع الأثيرة وكيفية مقاربتها لدى الروائيين والكتاب، إلى جانب التعبير عن هواجسهم الشخصية والجمالية، التي ترد في الحوارات التي يضمها، أي كل ما له علاقة بالصفة الأدبية. فإضافة إلى كل ذلك يحاول الروائي والمترجم إلياس فركوح أيضاً، وفي شكل يحتل مساحة مهمة من كتابه الجديد، تلمس المواقف التي يصدر عنها هؤلاء الروائيين، المواقف التي تجعلهم في مواجهة شرسة مع طغاة ورموز سياسيين، أو ممثلين لتيارات يمنية أو منتجي أفكار متشددة. لم يشأ إلياس فركوح في كتابه، الذي يضم حوارات مترجمة مع روائيين عالميين، التوقف عند الأدب الروائي الذي ينتجه هؤلاء فحسب، إنما أيضاً تقديم وجهات نظرهم ورؤاهم من الأحداث والتحولات التي تجري، وإلى أي مدى تبلغ جرأتهم أو شجاعتهم في إعلان مواقفهم. في هذا الإصدار، الذي ليس الأول من نوعه لصاحب «أعمدة الغبار» مقابلات مع ثمانية كتاب من بلدان مختلفة، ويعبرون عن ثقافات متنوعة، لكنهم يجتمعون في مزية واحدة، أنهم رأوا ولم يصمتوا، كما يشير العنوان الشارح أو الفرعي للكتاب، وهم: بول أوستر، مارلين فرنتش، خوان غويتسيلو، مارغريت درابل، ألفريدة يلينك، دبليو. جي. سيبالد، ميلان كونديرا ونانسي هيوستين. إذن نحن بصدد شخصيات ثقافية وأدبية ذهبت مباشرة صوب الساخن والملتهب في مجتمعاتها، كما يعبر المترجم، وأدلوا بآرائهم وفقاً إلى رؤاهم وأخلاقياتهم، فكان أن «هتكوا الزيف وحولوا أسراك الكلام المسيطر، صوتاً وصورة في فضاءات البث المعادي... إلى فضائح تشهد على نفسها وعلى أصحابها في الوقت نفسه». وعلاوة على المقدمة الرئيسة للكتاب، التي تثير، ضمن ما تثيره، سؤالاً عن الرابح في السجال بين اثنين: واحدهما يسأل مضمراً إجابات محتملة، وثانيهما لحظة إجابته إنما يتساءل عن «أفعاله» الكتابية، ويحار إذا ما كان قد أصاب معنى ما...»، يقدم إلياس فركوح لكل حوار، جاعلاً القارئ «قريباً جداً» من أجواء الكتابة ومن الاهتمامات التي تشغل كل روائي من هؤلاء، إلى جانب نشر اقتباسات، مكثفة ودالة، لهم عند نهاية كل مقابلة، وأحياناً مقالات. ولئن كانت الحوارات تتضمن شهادات على زمن بعينه، أو مرحلة محددة وإعلان مواقف صريحة إزاءها، فإن كره الأمركة أو الحقبة البوشية، نسبة إلى جورج دبليو بوش، وانتقادها بقسوة، يمثل المشترك بين غالبية الكتاب، أميركيين أو سواهم. تصاعدت الأمركة بعد غزو العراق، وتحولت معاداتها إلى أمر خارج السيطرة، كما تعبر الكاتبة البريطانية مارغريت درابل. «إني بالكاد أستطيع تحمل رؤية وجهي بوش ورامسفيلد، أو مشاهدة لغة جسمهما في وقفتهما، أو سماع تفاهاتهما المبتذلة الراضية عن النفس المتفككة والمتناقضات». تقول درابل، وتضيف أن أميركا تلجأ إلى استخدام كلمة «ديموقراطية» كونها صرخة معركتها، «لكن جنودها المتوترين عملوا على قتل المدنيين العراقيين بالرصاص حين حاولوا تنظيم تظاهرة في الشارع للاحتجاج على غزو بلدهم». وتؤكد أن أميركا واحدة من بلدان قليلة في العالم تقدم على إعدام القاصرين، باحتجازهم داخل السجن لسنوات إلى أن يكبروا بما يكفي لأن يصلحوا للإعدام، عندها تقوم بإعدامهم». وفي ما يتعلق بالوضع داخل بلدها بريطانيا، تقول الكاتبة التي تعد من أوائل الروائيات التي استمدت موضوعاتها من الحركة النسوية،أني أواصل الكتابة لجاك سترو (وزير خارجية بريطانيا سابقاً) في شأن ما يطلقون عليهم «المقاتلين غير الشرعيين»، بمن فيهم القاصرين، الذين تم احتجازهم هناك من دون تهم أو محاكمة أو محامين، ولسوف أواصل الكتابة له ولخلفائه حتى يحدث شيء ما... لا يمكن لأمة عظيمة ديموقراطية أن تتصرف على هذا النحو». صاحبة «حجر الرحى» رأت الكثير من الجزمات في أشهر قليلة تكفيها بقية العمر، «جزمات عراقية، وجزمات أميركية، وجزمات بريطانية. يكفي جزمات». الألماني دبليو جي سيبالد، الذي يحتقر «صناعة» الهولوكوست وما يتصل بها كثقافة رسمية تتصف بالحداد وعملية التذكر، يتأمل تاريخ الكتابة في ألمانيا خلال حقبة ما بعد الحرب، أي ال 15 أو ال 20 سنة الأولى، والتي كان فيها الناس يتجنبون الإشارة إلى الاضطهاد السياسي، السجن، الاحتجاز، والإبادة المنظمة لجميع الناس والمجموعات في المجتمع. لكن مع بداية 1965 تحول هذا الأمر ليكون موضوعاً له الأولوية لدى الكتاب، غير أنه لا يتحلى دائماً بالشكل المقبول، كما يقول. «ولذلك صار أن عرفت بأن الكتابة عن هذا الموضوع، وبخاصة الكتابة لأناس من أصل ألماني، تكتنفها الخطورة والمصاعب. فالهفوات التي تعوزها اللباقة، الأخلاقية والفنية، يمكن الحكم عليها بسهولة». سيبالد، الذي أراد قبل أن يموت في حادث اصطدام سيارة إيجاد صيغة أدبية تستجيب لتلويحات المأساة الإنسانية وأصدائها التي تطلع عابرة الأجيال والأمم، كان واضحاً بالنسبة له عدم إمكان الكتابة مباشرة عن رعب الاضطهاد بالصيغ الذاهبة في الكشف حتى النهاية، «لأن لا أحد بإمكانه تحمل النظر إلى تلك الأمور من دون أن يفقد سلامته العقلية. لذا كان أن تطرق الى تلك الموضوعات من غير مباشرة، والإيحاء للقارئ بأنها مترابطة. إن حضورها يظلل كل تغير في صوت كل جملة يكتبها المرء. فإن استطاع أن يجعلها مقبولة، عندها يكون بالإمكان البدء بالدفاع عن الكتابة المحيطة بتلك الموضوعات». الكاتب الإسباني خوان غويتسلو، الذي لا يزال اسمه يتردد في المشهد الثقافي العربي، لرفضه جائزة القذافي، وقف بنفسه على أمور كثيرة خلال أسفاره إلى الشرق الأوسط والشيشان والجزائر وسراييفو، وعاين عن قرب ما يسميه بحقيقة الفيديو، التي تغذى عليها الناس. «كان قراراً شخصياً اتخذته بعد حرب الخليج. كان باستطاعتي المعاينة المتأكدة أكثر بأن ليس هنالك من صلة تربط بين الحقيقة وما تم تسجيله». وخلال الحصار على سراييفو، التي سيذهب إليها بعد أن أقنعته الكاتبة الأميركية سوزان سونتاغ، ستتاح له فرصة الوقوف على «الحرب الحقيقية وكذلك حرب الكلمات». في كانون الثاني (يناير) 1944 تقصف سراييفو ذات ليلة، بأكثر من ألف قذيفة مدفع، ستقصف حتى الفندق الذي ينزل فيه، وفي المقابل سترد الحكومة بثمان وثلاثين قذيفة فقط، غير أن الأنباء التي بثت في اليوم التالي عن القصف، أشارت إلى أن المتحاربين تبادلا بغزارة إطلاق النار، «وكأنما هنالك طرفان متساويان!» الأمر الذي كان غير صحيح، «أحسست بالحاجة إلى أن أذهب وأن أكتب عما لم يكن يقال». غويتسلو الذي يقول ما يفكر به كثر لكنهم لا يجرؤون على التصريح به، بحسب كارلوس فوينتس، أعتبر إعلان بوش قبيل غزو العراق بأن الذين لا ينضمون للتحالف الحربي لن يحصلوا على عقود النفط، «غاية الصفاقة». ويرى أنه على المثقفين أن يعلنوا موقفهم، «ينبغي تحدي السياسيين». يمثل صاحب «علامات الهوية» كل شيء يتناقض مع ثقافة بلده الرسمية، هذه الثقافة التي يصفها ب «طفيلية يتعذر تغييرها، متفسخة وفارغة». هاجم التفكير الإسباني المحافظ لطمسه، طوال ال200 سنة الماضية، ثقافة البلد السامية، «أشباح العرب واليهود الإسبان التي يود الجناح اليميني الكاثوليكي استئصالها ومحوها من جبلة الماضي». أما الأميركية مارلين فرنتش، التي توصف بأخطر النساء، تجاهر بحربها على التفوق الذكوري، الذي يعارض ويقاوم تقدم المرأة، والذي نادراً ما يفسح لها المجال للارتقاء إلى مواقع أفضل، «ففي حين تسلمت النساء في بلدان غير صناعية أو غير نامية حوالى 6 في المئة من المواقع الحكومية، نجد أنهن لم يتسلمن سوى 5 إلى 11 في المئة في معظم البلدان الأوروبية». تقول صاحبة «غرفة النساء» روايتها الأولى (1977)، التي بيع منها أكثر من عشرين مليون نسخة، وصورت فيها في شكل درامي غضب وإحباط جيلها من الزوجات ربات البيوت المنفصلات عن أزواجهن، «كتبي ماء، أما تلك المحسوبة على أنها كتب عباقرة فإنها نبيذ، غير أن الجميع يشربون الماء». التشيخي ميلان كونديرا لم تعد خافية مواقفه من الأنظمة الشمولية، التي كتب فيها هجاء مطولاً عبر رواياته ومقالاته. صاحب «المزحة» يعتبر الإمبراطورية التوتاليتارية «الخطر الذي يتهددنا جميعاً. الخميني، وماو، ستالين، أهؤلاء يسار أم يمين؟ التوتاليتارية ليست يساراً وليست يميناً، وكلاهما (اليسار واليمين) سوف يهلك داخل إمبراطوريتها». لم يكن كونديرا مؤمناً في يوم من الأيام، كما يقول، لكن بعد مشاهدته للكاثوليك التشيخيين يعدمون خلال الرعب الستاليني، «شعرت بأعمق التضامن معهم. كان ما يفرقنا (الإيمان بالرب) أمراً ثانوياً لما كان يوحدنا. لقد شنقوا في براغ الاشتراكيين ورجال الدين من الكهنة. ولذلك تولد الإخاء مع المشنوقين». من هنا بدا له الصراع العنيد بين اليسار واليمين صراعاً ساذجاً تماماً. يكره كونديرا، الذي يعد أحد أهم الكتاب الذين أثروا كثيراً في أجيال من الروائيين في العالم، المشاركة في الحياة السياسية، مع أنها تجذبه كعرض للفرجة. «إنه مشهد تراجيدي ومميت في إمبراطورية الشرق، وهو مشهد فكري عبثي لكنه ممتع في الغرب». والأخطار التي تنجم عن الاضطهاد السياسي، قد تطاول كتابة الرواية نفسها، كما يشير، وهي خطر أسوأ من خطر الرقابة وقبضة الأمن. «فالاضطهاد يخلق حدوداً في غاية الوضوح بين الخير والشر، بحيث يقع الكاتب بسهولة في تجربة الوعظ والتبشير». وعلى المنوال ذاته تأتي الكاتبة النمسوية الفريدة يلينيك التي تنتقد النمسا لنسيانها ماضيها التاريخي، وليس حكومتها. أما القطيعة الكاملة مع الحكومة، «فقد حدثت عام 2000، عندما تحالف اليمين وبصيغة الاندماج مع اليمين المتطرف. منذ ذلك التاريخ أصبحت، مع كثير من زملائي ناقدة حادة للحكومة». ومن ناحية أخرى ترى أنها مسألة طبيعية أن يهاجمها اليمين المتطرف بشدة، «لكنني أعتبر هذا الهجوم بمثابة جائزة». تقول صاحبة «عازفة البيانو»، التي أمتنعت عن تسلم جائزة نوبل (2004) من ملك السويد، معتبرة أن تسليط الأضواء وسط الجموع سيكون مثل الاغتصاب الجسدي بالنسبة لها، إن المرأة لم تكن محل تقدير حقيقي وجاد في أي وقت، «ولسوف أظل أحارب ضد الشروط الاجتماعية، بينما آخرون يستمتعون بعدم المساواة، لا بل يجنون أرباحاً منها. وما دامت الرأسمالية هي التي تحكم وتسيطر الآن، فإن لهؤلاء اليد العليا». وتسلم الفريدة يلينيك، التي امتنعت عن عرض وتمثيل نصوصها المسرحية في النمسا، احتجاجاً على انضمام اليمين المتطرف إلى الحكومة، بأنه على المرء أن يعتاد حقيقة على عدم قدرته انتهاك رغبات الآخر السياسية، «سيستغرق الأمر زمناً طويلاً، كأنما هو السراب، إلى أن تحين لحظة جديدة تبزغ من أجل عدالة اجتماعية، وسياسية، واقتصادية».