كغيري من البشر عند زيارة أي مدينة حول العالم، أكثر ما يشدني هو الانضباط المروري، الذي يأتي نتيجة لنظام صارم ودقيق يحكم شوارع المدينة من خلال مراقبة حركة المركبات وضبط المخالفات، والمخالف أو متجاوز الأنظمة عليه الرضوخ والقبول بالجزاءات التي ستصدر من الجهات الراعية والمراقبة لتطبيقها، ومن لديه اعتراض يمكنه الطعن في الجزاء الصادر بحقه وتقديم مظلمته إلى محاكم مخصصة للنظر فيها. باختصار هذه المنظومة العادلة وفرّت الطمأنينة والثقة لحفظ حقوق الجميع، فصاحب المركبة يحترم الأنظمة ويضع نصب عينيه نظاماً صارماً، وتقنية متطورة تراقبه، ورجل أمن المرور يتمتع بقيم وأخلاقيات المهنة، وعند تجاوزها أو شخصنة الجزاء لمزاجية أو عصبية، يعرف هذا المسؤول أن عمله أو الإجراء الذي اتخذه خطأً معرضاً للنقض بل سيؤثر على حياته العملية ومستقبله الوظيفي، وفي الوقت نفسه هو مرتاح للعدالة التي يحققها ويسعى للحفاظ عليها من دون استثناءات أو واسطة أو محسوبية، فالنظام فوق الجميع وعلى الجميع أن يأخذ ذلك بعين الاعتبار. هذا التوازن العدلي في التنظيم المروري كمثال في الحياة المدنية أفرز بوعي ثقافي واطمئنان نظامي، انضباطاً وقبولاً وتشجيعاً، تطور في مدن عالمية معروفة إلى التبني والالتزام، وأصبح هو القاعدة والمظهر السلوكي المألوف والمتعارف عليه، والشذوذ يصيب تلقائياً المخالف، ويتعرض للاستهجان ليس من القائمين على رعاية ومراقبة تطبيق النظام، بل ممن يشاهد المنظر السلبي من عامة الناس في المدينة. الدوافع الذاتية للناس التي تفرزها تربية سليمة متأصلة، وثقافة مجتمعية تنعكس إيجاباً على التصرفات والسلوكيات، وتشكل قوة مانعة وتنتج مواطنة حقه، تسهم بفعالية في بناء الوطن الحضاري والتنموي، ونحن في زمن لم يعد للارتجال والتجارب المثيرة للجدل مكاناً في ظل تطور آليات وتقنيات مجالات البحث والتطوير، بعيداً من عروض شركات أو مصالح ورغبات أفراد بتطبيق هذا وأبعاد ذاك. يقول الكاتب الدكتور عبدالله ناصر الفوزان في مقاله في صحيفة «الوطن» عن مشروع ساهر: «مشروع ساهر مشروع حضاري يتفق الجميع على أهميته وفوائده، والذين انتقدوه انتقدوا طريقة تنفيذه ولم ينتقدوا الفكرة والهدف، ولكني أخشى إذا تم عسفهم (على الحق) عسفاً بتلك الطريقة التي رويت لي وبتلك السرعة في الخشونة أن يتحول حبهم له إلى كره شديد. لو تم تطبيق النظام بالتدريج وعلى مراحل عدة خلال عام واحد على الأقل بحيث تبدأ المرحلة الأولى ببرمجة كاميرات الشوارع التي سرعتها (70) كيلو متراً في الساعة على (100) بحيث تسجل المخالفات على من يصلون لل «100» وتكون هي المرحلة الأولى التي تعلن للناس، ثم تبدأ المرحلة الثانية بإعلانات مكثفة يتم فيها تسجيل المخالفة على (85) كيلو متراً، ثم ينتهي البرنامج بالمرحلة الأخيرة لتسجيل المخالفات على سرعة الشارع المحددة (70) كيلو متراً، لو تم تنفيذ البرنامج بهذه الطريقة المتدرجة، ألن يكون هذا أفضل، وأدعى لغرس حب النظام في نفوس المواطنين، بدلاً من العسف الشديد المفاجئ الذي يُولّد الكره؟». أقول للدكتور الفوزان مع تأييدي لوجهة نظره، لأن مشروع ساهر في اعتقادي لم يأتِ نتيجة لبحث وتطوير علمي وعملي شارك في التخطيط له نخبة من المتخصصين من أكاديميين وباحثين، ولم تعقد ورش عمل لمناقشة خطة تطبيقه المرحلية حتى الوصول إلى مرحلته النهائية، لأن هذا لم يحدث، فقد أُستقبل المشروع بتوتر وحيرة وانعدام رؤية الفوائد من ناحية، ومقاومة قيمة مذابح المخالفات من ناحية أخرى. ولأنه ليس أمامنا من خيار إلا أن نسهم في إنجاحه، لنحسن النية ونحتضن المشروع بالمؤازرة والتأييد، ولنعتبر ويعتبر القائمون على رعايته وتطبيقه، المرحلة التي تمت مرحلة الصدمة للتنبيه واليقظة، ونتحملها مهما كانت تكاليفها وملاحظاتنا عليها، ونتطلع متفائلين إلى أن تكون المرحلة الثانية من الخطة أكثر دقة واحترافية، خصوصاً أن الجميع تنبه واستشعر الفوائد، وأهمها المحافظة على سلامة أرواح الناس، كما أننا نأمل أن يكون القائمون على المشروع من باحثين ميدانيين ومراقبين ومتابعين (إذا كان ذلك بالفعل متوفراً)، قاموا بتدوين وتحليل الملاحظات والانحرافات التي حدثت أثناء التطبيق في الأشهر الماضية. كارثة ومأساة إذا استمرت علاقتنا برجال المرور وأنظمته في حال من التنافر والشد والجذب، ولم نستطع الاندماج بثقة واحترام متبادل، المؤكد الذي يجب أن نحسه ونقتنع به ونشجع عليه أنهم أي رجال المرور يحبوننا ويخافون علينا ويسهرون على راحتنا، مستأمنين وأمينين على تطبيق ورعاية الأنظمة، عادلين مع الجميع من دون استثناء أو محسوبية، متجنبين الظلم والتعسف، يحبون الوطن، غيورين على مصالحه وسمعته. ونحن، مواطنين ومقيمين، واجب علينا أن نحبهم ونحترمهم ونثق بهم، نقدم لهم وردة معطرة بالحب كل صباح، وابتسامة شكر وثناء في المساء، وليستشعر كتّاب الرأي وجميع الإعلاميين على اختلاف مشاربهم وتخصصاتهم مسؤولية المبادرة بتأسيس ونشر ثقافة ومنهج الثقة، ولنبدأ أولاً بإنشاء نادي أصدقاء المرور، للالتقاء فيه بشكل دوري مع رجال المرور، نطرح همومنا وملاحظاتنا ونصائحنا، ونسمع إجاباتهم وخططهم وبرامجهم، وليكن هذا النادي في مقر هيئة الصحافيين إذا كان ذلك ممكناً ومقبولاً. في اعتقادي، البحث عن الإحباط والنظرة السوداوية أسهل من البحث في التفاؤل، فباستطاعة المرء التشكيك وإلقاء التهم وتحطيم المعنويات للوصول إلى إشباع غريزة تسويق عضلات الشهرة، وهذا للأسف ما فعله بعض الإعلاميين وكتّاب الرأي عند تناول مشروع ساهر، ولكن البحث في التفاؤل واقتراح الحلول - مثلما فعل الدكتور الفوزان في مقاله على سبيل المثال - هو الأمل الذي يجب أن نسهم في زراعته ورعايته بالسقيا، والأقلام المخلصة قوية ومؤثرة في مواجهة ظلمة الإحباط والمحبطين المُمسكين بحبال التراجع. [email protected]