لم يستطع النحويون أن يجعلوا للحرف «حتى» سقفاً يسهل تحته تقنينها إعراباً، فلقد تمردت على النحاةِ حتى ماتوا وفي أنفسهم شيءٌ منها، كما قال سيبويه، أو كما قال الفرَّاء في روايةٍ أخرى، ولكنهم أمانةً حاولوا جاهدين لإعرابها فماتوا وبقي شرف محاولاتهم الحثيثة نوراً استضاء به نحويون آخرون من خلفهم، فخلص الأولون والآخرون إلى أنها أداة نصبٍ أحياناً، وأحياناً تعمل كأداة رفع، وأداة جرٍ في أحيان، وليس لها محلٌ من الإعراب في قليلٍ من الأحيان... أما عن الإرهاب، فحتى الساعة لم يخلص المجتمع الدولي بهيئاته وممثلياته بحصره بين قوسي تعريفٍ مقنن ومحدد يقفل باب التفسيرات والتأويلات والالتفاف عليه، فهناك من يرى بأن كل من امتشق السلاح إرهابياً، وهناك من يقول إن من يقذف المدرعات والدبابات العسكرية بالحجر إرهابياً، وهناك من ينعت المتجول في مدينته أو قريته أثناء ساعات حظر التجول بالإرهابي، نعلم جميعاً أن الإرهاب بشكلٍ أو بآخر تمرد على النظام، فهل تعريفه أيضاً تمرَّد على المفاهيم؟! استشعر المجتمع الدولي ممثلاًً في منظومة الأممالمتحدة خطر انتهاكات حقوق الإنسان، فتوصل بسرعة فائقة لتعريفها ونادى بالقضاء عليها من خلال اتفاقات دولية ملزمة على من صادق عليها، والغريب أنه على رغم إدانته للإرهاب من خلال بعض الاتفاقات الدولية، إلا أنه لم يعرِّف الإرهاب تعريفاً واضحاً ومقنناً ما جعل بعض الدول - وفي مقدمها المملكة العربية السعودية – تسعى بجدية لاستصدار معاهدة دولية في إطار الأممالمتحدة تتضمن تعريفاً محدداً للإرهاب وإنشاء وكالة تابعة للأمم المتحدة تكون مظلةً لهذه المعاهدة، ولأن المملكة من الدول المؤسسة للأمم المتحدة وعضو فاعلٍ فيها وداعمٌ لصناديقها، ولها ثقل سياسي واقتصادي في العالم، ولها تجربةُ ناجحة بكل المقاييس في القضاء على الإرهاب امتدت لاستئصال جذوره من خلال برامج المناصحة والتأهيل التي لقيت إعجاباً دولياً، فإن المتطلعين للحصول على تعريف دولي للإرهاب من خلال معاهدة دولية يميلون إلى التفاؤل أكثر من ميلهم لليأس الذي يخلفه التجاهل غير المبرر لتقنين تعريف الإرهاب، لكون رغبتهم تتوافق ورغبة المملكة في ذلك، وحتى نكون أكثر شفافية فإن التوصل للسبب الحقيقي لعدم تعريف الإرهاب يقتضي أن نحدد المستفيدين من ذلك، إن أكبر مستفيد من ترك الإرهاب بلا تعريف محدد هي إسرائيل، لأن التعريف الحقيقي للإرهاب لا يتماشى وسياساتها الدموية والترويعية، وأن ذلك سيجعل المقاومة التي هي في الأصل من أبسط حقوق الشعب الفلسطيني مقاومة مشروعة، بل إن الأمر يتجاوز ذلك بكثير، فإسرائيل تعتبر المقاومة التي يبديها الفلسطينيون لممارساتها الوحشية إرهاباً، مادامت الأصوات المنتقدة لممارساتها لا تجد لديها صدى، وأنها لا تعير القرارات الدولية المنددة بسياستها أي اهتمام وأنها تتحكم عن بعد في المهزلة التي تُدعى «حق النقض»، فماذا يضيرها لو كان هناك معاهدة دولية تتضمن تعريفاً محدد للإرهاب؟ هل هي سياسة المَنعة التي تقتضي اتخاذ مزيد من الإجراءات الاحترازية؟! أم هي محاولات لتحجيم التجارب الناجحة في القضاء على الإرهاب؟! آن الأوان ليقف المجتمع الدولي وقفة جادة للتعاطي مع هذه الظاهرة المؤرقة من خلال صياغة معاهدة دولية تتضمن تعريفاً محدداً للإرهاب، وأن تتم الاستفادة من التجارب الناجحة في محاربته كتجربة السعودية من خلال إنشاء وكالة دولية متخصصة يتم فيها بلورة تلك التجارب إلى مبادئ توجيهية تسترشد بها الدول في حربها على الإرهاب لاسيما تلك التي لا تزال فيها العمليات الإرهابية تُمارس خارج حدود سيطرتها، هذا على الصعيد الدولي، أما إقليمياً فإنه حرياً بدول المنطقة، خصوصاً العراق، أن تحصل على نسخة طبق الأصل من تجربة المملكة في محاربة الإرهاب وتسترشد بها في القضاء عليه وذلك سيسر المملكة بالتأكيد، إن التعاطي الفكري مع الإرهاب أبلغ أثراً من التعاطي معه بأي شكلٍ من الأشكال على رغم ضرورة وجود القدرة على كبحه عملياً لأن ذلك كفيل بإيصال رسالة غير مباشرة لمن اصطلح على تسميتهم بالإرهابيين، مفاد تلك الرسالة يتلخص في مصطلح «سلام الشرفاء»، وعملياً فقد خلصت هذه الديناميكية الجديدة في التعاطي مع الإرهاب في المملكة إلى حلول أكثر نفعاً من حلول الاستئصال، ومن المتعارف عليه فإن إبقاء السن بعد معالجته وتنظيفه من السوس أفضل من خلعه، وهذا ما اضطلع به الأمن السعودي في تجربته مع الإرهاب، فلا يكاد يمر يومٌ إلا ونسمع فيه بأن فلاناً المطلوب أمنياً سلَّم نفسه، والآخر خرج من السجن بعد إخضاعه لبرامج المناصحة والتأهيل وتزوَّج وكوّن أسرة، يذكر على وجه الإشادة هنا المساعدات التي تقدمها وزارة الداخلية السعودية لأولئك الذين عادوا إلى رشدهم بعد أنْ غُرِّر بهم، فخرجوا من جديد للحياة ولم يجدوا أمامهم إلا حطام الماضي والذكريات الأليمة، فكانت تلك المساعدات لهم بمثابة الكف الحانية وسلم الصعود بعد السقوط، كما أن الأساليب الوقائية المستحدثة التي ترمي إلى مكافحة الإرهاب قبل نشوئه من خلال ندوات الأمن الفكري التي عملت بها وزارة الداخلية بالتعاون مع الجهات المختصة مثل وزارة التعليم العالي ووزارة التربية والتعليم وغيرهما من الجهات، تسجل ضمن النجاحات الباهرة التي حققتها حكومة المملكة في التعامل مع الإرهاب. المملكة بتجربتها هذه تجاوزت دولاً متقدمة، بل إن هناك دولاً متقدمة فشلت فشلاً ذريعاً في مكافحة الإرهاب، وسعت بأن تدرج الدول ذات التجارب الناجحة في إطار فشلها من خلال دفع بعض المنظمات الحقوقية ليس على تحجيم تلك التجارب الناجحة وعلى رأسها تجربة المملكة بل على انتقادها أيضاً، ولكن كان مبدأ «لسان الواقع هو الأصدق دائماً» خير دليل على زيف تلك الانتقادات... نخلص قولاً بأن المملكة هي الدولة التي عانت من الإرهاب كثيراً وهي الدولة التي انتصرت عليه انتصاراً كاسحاً، وآن الأوان أن يكتب المنتصر انتصاره ليس على وجه الافتخار بل لكي يستفيد من يسعى بجدية للخلاص من هذه المشكلة التي لا تزال لديه معضلة، من خلال إنشاء وكالة لمكافحة الإرهاب تحت مظلة الأممالمتحدة، وصياغة معاهدة دولية تتضمن تعريفاً محدداً للإرهاب، لأنه باختصار قد يأتي يوم يظهر فيه مصطلح «الكريستيانفوبيا» أو «الجويشفوبيا» كما ظهر مصطلح «الإسلاموفوبيا»، أي أنك حتماً ستخسر مصالحك الخاصة إذا لحق الضرر بالمصالح الأعم! [email protected]