نعرف طبعاً، ان جول فيرن، الكاتب الفرنسي الذي كان رائداً من رواد أدب الخيال العلمي، وواحداً من مؤسسي الأدب القائم على العلم عموماً، بدأ يحقق النجاح منذ روايته الأولى التي نشرها له هتزل في العام 1863. ونعرف ان هتزل نفسه، والذي ارتبط اسمه كناشر، باسم جول فيرن على الدوام، كان من الحماسة للكاتب الى درجة انه سرعان ما وقّع معه عقداً يطاول عشرين سنة، يتوجب على فيرن خلاله ان يقدم لناشره رواية جديدة كل ستة اشهر، او اربعين رواية خلال كل تلك الفترة. وهتزل لم يكن مخطئاً في توقعاته، ذلك ان الروايات، حين راحت تنشر واحدة اثر الأخرى، حققت كلّها من النجاح الجماهيري ما ادهش المراقبين، وما دفع هتزل نفسه الى ان يزيد من قيمة العقد مرة بعد مرة. ونعرف ان هذا النجاح الساحق قد وصل الى ذروته في العام 1873 مع نشر رواية «حول العالم في ثمانين يوماً» مسلسلة اولاً في صحيفة «الزمن» ثم في كتاب، بخاصة ان مراسلي الصحف الأميركية في باريس كانوا يرسلون، برقاً، ملخصات للفصول المنشورة الى صحفهم لتنشر هناك. لقد بات واضحاً في ذلك الحين ان النجاح اسطوري وعلى الصعيد العالمي، ما اسس حقاً لما في امكاننا ان نطلق عليه اليوم اسم «عولمة الأدب». والحال ان هذه العولمة التي تأمنت بفضل نجاح روايات جول فيرن، كان لها وجه آخر يرتبط هذه المرة بالمواضيع والأجواء التي خلقها وضمّنها اعماله. فإذا كان الكتّاب عادة قد مالوا الى الكتابة عن بلدانهم، فإذا حادوا عنها توجهوا الى تاريخ البلدان الأخرى، فإن جول فيرن جدّد في هذا السياق، حيث ان عدداً لا بأس به من رواياته قد دار، أحداثاً، خارج بلده فرنسا. والطريف ان الرجل الذي لم يعرف بكثرة اسفاره (وكيف يسافر كثيراً وهو مجبر على الجلوس خلف طاولته للكتابة، يومياً، تنفيذاً لعقوده؟). عرف كيف يصف البلدان الأخرى التي موضع فيها احداث رواياته، بشكل اقترب احياناً من حدود الدقة. وحسبنا في هذا السياق ان نتذكر فصول «حول العالم في ثمانين يوماً» المتلاحقة والمتنقلة من بلد الى آخر حتى نصاب بالدهشة، وبخاصة متى علمنا ان فيرن لم يزر معظم البلدان التي وصفها. غير ان حال «حول العالم...» لم تكن شيئاً، في هذا المجال، مقارنة بحال رواية تالية لفيرن، صدرت في العام 1876، اي بعد تلك الرواية الفذة بثلاثة اعوام، وفي زمن كان الكاتب يعيش أعلى درجات نجاحه. وهذه الرواية هي «ميشال ستروغوف» التي، حتى وإن كانت خالية كلياً من تلك العناصر التقنية والتنبؤية التي طبعت معظم اعمال الكاتب، تعتبر الأجمل بين رواياته. والطريف ان قراء كثراً يقبلون على «ميشال ستروغوف» ويقرأونها ناسين ان كاتبها فرنسي. كثر يخيل إليهم لردح من الزمن، ان الكاتب روسي. وثمة من يخلط بينها وبين اعمال لغوغول، وربما دوستويفسكي ايضاً، حتى وإن كان لا علاقة لها بهذين على الإطلاق. والسبب بسيط: ان في «ميشال ستروغوف» من وصف مقنع ودقيق للحياة والعادات والأجواء الروسية لاسيما في شرق روسيا، ما يدهش، ويدفع دائماً الى السؤال: من اين اتى جول فيرن بهذا كله وكيف قيّض له ان يعرف كل هذه الأمور عن روسيا وتاريخها وشعوبها وألوانها وذاكرتها الشعبية وما إلى ذلك؟ على أي حال، من المؤكد ان من يقرأ الرواية ويغرق في قراءتها كلياً، لن يهتم كثيراً بأن يبحث عن إجابات لأسئلة من هذا النوع. ذلك ان «ميشال ستروغوف» تقرأ بشغف ومتعة وتقبض على انفاس قارئها منذ الصفحة الأولى حتى السطور الأخيرة. فهي، اولاً وأخيراً، رواية مغامرات ممتعة، همها ان تسلي القارئ وترفه عنه وتثيره. اما اذا كانت قد جعلت ملايين القراء في شتى اللغات وفي انحاء العالم كافة يندمجون من خلالها في الحياة الروسية، وربما يكتشفون للمرة الأولى في حياتهم وجود تلك الأمة المدهشة وقارتها الشاسعة، فأمور لا تأتي هنا في المقام الأول. إذاً، فنحن هنا امام رواية مغامرات، والمغامرات فيها هي تلك التي يقوم بها ميشال ستروغوف نفسه وهو ضابط مكلف بإيصال بريد القيصر. اما البريد الذي يتعين عليه ايصاله اليوم فهو رسالة يجب ان تصل بسرعة من العاصمة الى حامية مدينة اركوتسك الواقعة الى اقصى الشرق من البلاد الروسية عبر سيبيريا، لتنبّه تلك الحامية الى خطر محدق بها يتمثل في جماعات التاتار الذين يستعدون بقيادة المتمرد ايفان اوغاريف الى غزو تلك المدينة والانطلاق منها - إذ يصبح ذلك سهلاً بعد غزوها - للسيطرة على سيبيريا وربما على روسيا كلها. وهكذا يحمل ستروغوف رسالته ويسرع قاطعاً روسيا من غربها الى شرقها. ولسنا في حاجة هنا الى القول انه في نهاية الأمر سينجح في مسعاه. فالمنطق يقول هذا، بالطبع، إنما المهم هو الطريقة التي ينجح بها. والصعوبات التي يتمكن من اجتيازها والمخاطر التي يتعرض لها، لا سيما حين يقبض عليه المتمردون مرة، او يجابهه الحظ التعيس مرة، او يضيع في الطريق مرة وما الى ذلك، صحيح ان هذا كله يعطي جول فيرن الفرصة لكي يصف لنا ارضاً وشعباً وأجواء، لكن شخصية ميشال ستروغوف انما هي سباق مع الزمن والموت والفشل. ولئن كان يمكن استخلاص اي درس منها، فإنما يتعلق هذا الدرس بقدرة الإنسان على تحدي كل الصعاب والتغلب عليها حين يكون لديه العزم والدافع ولا يرغب في الاستكانة الى قدره. غير ان هذا الدرس يظل ثانوياً امام سرد جول فيرن ووصفه الذي يكاد يكون بصرياً لما يعيشه بطله. من المؤكد ان رواية «ميشال ستروغوف» كانت واحدة من اعمال جول فيرن المفضلة لديه، وليس ذلك فقط لأنها درّت عليه من المال (الى جانب «حول العالم...») ما مكّنه من شراء قصر منيف عاش فيه بقية ايام حياته مرفهاً، بل ايضاً لأنها كانت العمل الأكثر انسانية بين اعماله، هو الذي كان اشتراكياً ذا نزعة انسانية تؤمن بالإرادة البشرية الى جانب الإيمان بالعلم. ومن هنا، لم يكن غريباً ان يحوّلها في العام 1880 الى مسرحية حققت نجاحاً كبيراً بدورها. وجول فيرن (1828- 1905) يعتبر على العموم ظاهرة من ظواهر الكتابة على مدى التاريخ الأدبي، وكانت اعماله ذات حقبة تعتبر الأكثر رواجاً في العالم بعد الكتب المقدسة. ومن أبرز اعماله التي لا يسهل احصاؤها «خمسة اسابيع في مالون» و «رحلة الى القمر» و «رحلة الى باطن الأرض» و «20 ألف فرسخ تحت الماء» و «ماتياس ساندورف» وغيرها من اعمال غذت زمنها كما غذت الأزمان التالية له. [email protected]