الهجوم الذي استهدف كنيسة سيدة النجاة وسط بغداد يوم الاثنين الماضي، والذي أدى إلى مقتل 52 مصلياً ورجال شرطة عراقيين، جريمة دانتها الحكومات الغربية بصوت واحد. كان الأمر منتظراً ولو أن لا أحداً جعلها يوماً وصية على المسيحيين العرب ولا حتى إخوتنا المسيحيون أنفسهم. كان من الأفضل أن تدينها كل الحكومات العربية بصوت أوضح وبخاصة كل السلطات المعنوية والشخصيات الإسلامية، وألا يترك أمر الاستنكار للموظف الأول للجامعة العربية، والكل يعلم مدى صدقية أو إشعاع الرجل والمؤسسة. الفظيع في الجريمة النكراء عدد الضحايا الأبرياء وأيضاً قتلهم لمجرّد كونهم مسيحيين. لكن الأفظع ما تدل عليه الجريمة، أي قدرة التخريب الهائلة التي يتوفر عليها اليوم من أسميتهم الأغبياء الخطرين. هؤلاء ظاهرة مشينة لا يخلو منها دين: مجانين التكفير عندنا، القس الأميركي تيري جونز الذي هدّد بمناسبة ذكرى 11/9 بحفل حرق المصحف الشريف، والحاخام الإسرائيلي باروخ مارزل الذي أفتى بتحريم كراء المنازل للفلسطينيين، ناهيك عن الحاخامات الذين أفتوا بقتلهم، والكهنة الهندوس الذين كانوا وراء حرق جامع أيوديا...الخ. الجزء الأول المكون لهذه الشخصيات هو الغباء. أي تفسير آخر - عدا التآمري - لفهم الحجة التي تذرّع بها أصحاب مجزرة كنيسة سيدة النجاد، أي الثأر لامرأتين تقول الجماعة إنهما تحولتا إلى الإسلام وتم احتجازهما ضد إرادتهما، مهددة بأنها ستبيد المسيحيين العراقيين في حالة عدم تحريرهما؟. هل يمكن لعاقل أن يثأر لدينه بهذه الكيفية علماً أنه لا مكان لمفهوم كهذا في أي دين؟. وبخصوص الحجة يجب العودة للمعركة التي يشير إليها النزاع السخيف الدائر في مصر حول السيدتين المصريتين، وهما زوجتا كاهنين، اختفت إحداهما في 2004، واختفت الأخرى في تموز (يوليو) الماضي. ويقال إنهما اختطفتا عقاباً لهما على اعتناق الإسلام، وهاهم المدافعون عن الدين الحنيف يتصدون ل «المظلمة الكبرى» بقتل أكثر من خمسين مصلّياً بريئاً في بلد آخر. كل هذا ينضح بغباء سميك لا علاج له ولا شفاء منه، يدلّ على الانحطاط الذي أصبح جزء من شعبنا يعاني منه وقد تداخلت الطرق وضاعت المفاهيم واختلط الحابل بالنابل في العقول والقلوب. المضحك المبكي في الأمر أنه في الوقت الذي يتقاتل المساكين والفقراء و «الغلابة» من المسلمين والأقباط على تفاهات، يتواصل سلب الفريقين على يد من لا يضيعون وقتهم في السفاسف، وإنما في تكديس الكنوز والهرب بها إلى حيث المكان الأمين. لكن أليس هذا هو الدليل الساطع على غباء الأغبياء وهم يخطئون في تحديد سبب المصائب المتساقطة على رؤوسهم متوجهين بنقمتهم للضحايا مثلهم، لا للجلادين. وهؤلاء الناس خطرون لأنهم مثل شرارة النار التي ترمى على الحطب اليابس القابل للالتهاب بسرعة مخيفة، والذي هو عمق تشبثنا كلنا بمقدساتنا لأنها أكثر من اعتقادات ومبان وطقوس، بل إحدى أهمّ دعامات هويتنا الفردية والجماعية. ومن ثم خطورة الرجّة التي تصيبنا عندما يفجّر مسجد أو كنيسة أو كنيس أو معبد. فالرسالة الموجهة بهذا التدمير متعددة الأبعاد: لا نحترم فيكم شيئاً أو أحداً لأننا في قرارة أنفسنا لا نعتقد أنكم بشر وإنما أبالسة خارجون على المقدس الذي لا يعرفه سوانا... ما ترونه أنتم مقدساً ندنسه نحن لنثبت لكم أنه ليس أكثر من حجر على حجر أو من حبر على ورق. ولا غرابة في حدة ردّ الفعل على اعتداء يتوجّه إلى الأعماق وهو ينكر علينا إنسانيتنا التي لا نعبّر عنها إلا من خلال معتقدات وطقوس مثلما لا نعبر عن مشاعرنا إلا بلغة وكلمات ليست تلك التي يستعملها الآخرون. إنه عنف أعمى يفجّر عنفاً أعمى. إنها المعادلة التي طبعت دوماً بطابعها الدموي الحروب الدينية، وهي كما يعرف الكلّ أكثرها شراسة، والرهان ليس على ما يملك الآخر من مال وسلطة وإنما عليه هو ذاته لا غير. والسؤال منذ قديم الزمان هو ما الذي نستطيع فعله، نحن القابلون باختلافاتنا العقائدية والعرقية والسياسية والشخصية والفاهمون أن الخيار هو التفاوض السلمي لتعايش يكون في مصلحة الجميع وإلا فالحرب الأزلية. لاشيء تقريباً، فهذا الجنس من الآدميين مثل الحشائش المضرّة التي تنبت باستمرار مهما ناشدت الأديان والأخلاق وعلّمت ودعت، ربما لأنهم يمثلون الجزء الأظلم في ما يسميه المتنبي شيم النفوس. الشيء الوحيد الذي نقدر عليه هو لعب دور رجال المطافئ. ما إن يشعلوا حريقاً حتى يتوجب على العقلاء المسارعة لتطويقه حتى لا يمتدّ ملتهماً الأخضر واليابس. مأساة كنيسة سيدة النجاة ببغداد لم تُظهر فقط حيوية الأغبياء الخطرين، لكن أيضاً، للأسف الشديد، وهن رجال المطافئ العرب والمسلمين الذين لم يهبوا هبة رجل واحد للتضامن الصادق والشجب غير البروتوكولي والمسارعة بالوعظ والإرشاد لأمة يبدو أحياناً كأنها فقدت حقاً بوصلتها. معذرة يا إخوتنا المسيحيين ورحم الله الضحايا الأبرياء. * كاتب وناشط تونسي