اذا صدقنا أحد المتتبعين لمختلف الاحتجاجات التي عرفتها فرنسا عبر تاريخها، يمكن أن نؤكد أن فرنسا ما فتئت تعرف قلاقل كل ثلاثين سنة منذ ثورتها الكبرى سنة 1789، وأن الشعب الفرنسي شعب ثوري حتى النخاع. حتى عهد قريب كانت بقية الدول الأوروبية تنظر الى ذلك بعين الاعجاب، وسرعان ما كانت عدوى الاضرابات والاحتجاجات تسري في بقية الدول المجاورة، إلا أنها لم تكن لتطاول بريطانيا الجارة المنافسة. اختلف المحللون في تفسير هذه المناعة الثورية التي تميزت بها بريطانيا عبر تاريخها. منهم من ردها الى «خنوع» الشعب الانكليزي واستكانته و «برودته»، بل منهم من ردها الى الأسس الفلسفية التي تقوم عليها كلتا الثقافتين. فالثقافة الفرنسية تقوم على عقلانية متشككة تعطي مكانة للنقد وتبدأ بالشك في ما يبدو مسلماً للوهلة الأولى، وربما لذلك سهل عليها التفتح على الفكر الجدلي الوارد من الجارة الأخرى، ذلك الفكر الذي يعتبر أن الكائن ينطوي على ما ينفيه، فينظر اليه بالتالي على أنه يمكن دوماً «أن يغدو ما ليس هو». وهذا بطبيعة الحال مناقض لثقافة الجارة الشمالية التي تقوم على فلسفة وضعية «ايجابية» لا تعطي السلب مكانة كبرى، فتنحو من أجل ذلك منحى تصالحياً مهادناً، لا يرى في اصلاح المنظومة تفجيراً لما تنطوي عليه، وإنما «معالجتها» وترميمها وتعديل عناصرها. فعناصر المنظومة جميعها، والاطراف الداخلة فيها كلها فاعلة أساسية في سير المنظومة، وهي لا تناقض بعضها بعضاً. وهذا ما يجعل النقابات البريطانية لا ترى في أرباب العمل عنصراً مضاداً، وانما عنصراً مشاركاً ينبغي التوصل الى التوافق الممكن معه، وليس اعلان الرفض التام لكل مبادراته. بطبيعة الحال لا يسلّم المحللون جميعهم بهذا التحليل الفلسفي الذي يروم تقصي الأسس التي تجعل الثقافتين متباينتين الى هذا الحد. بل ان بعضهم يذكرنا بأن جد الموقف الوضعي الايجابي هو فيلسوف فرنسي. وربما من السهل الرد على ذلك والتذكير بأن فلسفة أوغست كونت، على رغم نزعتها الوضعية، وعلى رغم شعارها الذي يقوم أساساً على مفهوم النظام، الذي يعتبر كل ثورة خللاً يهز الأسس ويقوض الأركان، إلا أن أبا الوضعية يظل مفكراً نقدياً يواجه التفسيرات اللاهوتية والميتافيزيقة مواجهة «نقدية» تستند الى العلم. وقد لا يبدو هذا كافياً لتعليل السخونة التي تميز الفرنسيين قياساً ببرودة الجيران. لذا يحاول البعض الرجوع الى تاريخ النقابات الفرنسية ليكشف عما تغذت عليه من فكر ثوري عندما انفتحت على الفكر الماركسي والتنظيمات الشيوعية. * كاتب مغربي