قبل أن أشرع في الكتابة عن كتاب فاطمة المحسن «تمثلات النهضة في ثقافة العراق الحديث»، (صدر عن دار الجمل) أود أن أعترف بأن هذه المرحلة الثقافية المبكرة من تأريخ العراق الحديث لا تكاد تعني شيئاً بالنسبة لي كمثقف وكاتب عراقي من جيل لاحق. فماذا بقي من محمود شكري الألوسي، ومحمد بهجت الأثري، وهبة الدين الشهرستاني الذي أخرجته فاطمة من بحر الظلمات والنسيان، وحتى جميل صدقي الزهاوي، ومعروف الرصافي الذي نسيناه لولا صدور كتابه «الرسالة المحمدية» قبل بضع سنوات، ومحمود أحمد السيد الذي يعتبر رائد القصة العراقية. وأنا على ثقة كبيرة بأن فؤاد التكرلي، وعبدالملك نوري، وغائب طعمة فرمان، وآخرين بمن فيهم كاتب هذه السطور لم يعنِ عندهم محمود أحمد السيد شيئاً، وربما لم يقرأوا نتاجه المندثر. لكنني مع ذلك قرأت كتاب فاطمة بإعجاب كبير وبمتعة فائقة. مفارقة؟ ربما، ففاطمة لم تقنعني بأن هؤلاء المثقفين كانوا أساتذة لي، ولا أظنها كانت تقصد ذلك. فكيف وجدتُ الكتاب رائعاً رغم ذلك؟ وجدت الكتاب رائعاً لأن فاطمة أعادت إلينا ذاكرتنا المنسية في أيامنا هذه التي يتعرض فيها عراقنا الى مصير غامض. وتريد أن تستحضر تاريخنا الثقافي بكل دقائقه منذ خروج العراق من دياجير الفترة المظلمة وحتى يومنا هذا. مع ان الفترة المظلمة لم تكن تخلو من محاولات ثقافية متململة، كما في شعر صفي الدين الحلي، وآخرين مثل عبدالغفار الأخرس الذي درسنا شعره في المدرسة، وعلق منه في ذاكرتي: «أتمنى لو أراه حلماً / والتمني رأسمال المفلس». ويمثل كتاب فاطمة نصف المرحلة، بأمل ان تنجز المشروع بتمامه في كتاب لاحق. وهي مهمة كبيرة لا ينهض بها ألا كاتب ذو قدرات ممتازة. وكل المؤشرات تشير الى ان فاطمة المحسن تملك هذه المؤهلات. وهي كتبت عن البدايات وانتهت بمشروعها الأول حتى الربع الأول من القرن العشرين. وتساءلت هل بدأت نهضة العراق منذ حكم داود باشا، آخر المماليك، الذي حكم العراق بين 1817 – 1831، وحاول الانسلاخ عن الدولة العثمانية، مثلما فعل الخديويون في مصر، أم منذ حكم الوالي العثماني المصلح مدحت باشا الذي حكم العراق بين 1867 – 1870، أم منذ 1908 عام صدور الدستور العثماني، أو ربما منذ تأسيس الدولة العراقية في عهد الملك فيصل الأول في 1921؟ وإذا كان من الصعب البت في ذلك، ففي وسعنا القول ان النهضة الحقيقية بدأت في العراق منذ تأسيس المدارس فيه. وهذا تم منذ أواخر العهد العثماني حيث تأسست مدارس (ربما مدرستان) للدراسة الثانوية، وكلية للحقوق في 1908. لكن المدارس في نطاقها الأوسع تأسست منذ تشكيل الحكومة العراقية في 1921. وعلى أية حال، كانت فاطمة تروي لنا بإسلوبها الجذاب عن بدايات انتقال العراق الى العصر الحديث. والعصر الحديث هو «لحظة النزول الى الحلبة العالمية»، كما قال الزهاوي. وأنا كنت أجد متعة كبيرة في متابعة هذه المعلومات التي ترويها لنا فاطمة عن نهضة العراق. وتحاول أن تقنعني بأن جيل الرواد لم يكونوا «عاطلين» بالمرة. فمحمود أحمد السيد كتب عن تولستوي وتورغينيف، وترجم قصصاً روسية عن التركية. والزهاوي صدم المصريين بأفكاره المشككة في المعتقدات الدينية. والرصافي ألف كتابه الجريء عن الرسالة المحمدية الذي لم يستطع نشره في أيامه، ولم يجد طريقه الى النشر إلا في أوائل القرن الحادي والعشرين، ومع ذلك تم توزيعه بتحفظ. وأعترف بأنها فاجأتني بكتابها هذا، لأنه كتاب من أرفع المستويات، مع انه أول كتاب لها في حدود علمي. وأنا لا أدري إن كان قد صدر كتاب عن هذا الموضوع يأتي في مصافه. وأنا لا أستطيع ان أتابع تغطية كل فصول هذا الكتاب بعناوينها الجانبية المتعددة، التي تتحدث عن كل ما له صلة بواقع الثقافة العراقية منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى نهاية الربع الأول من القرن العشرين. وكان حديث الشعر والنثر في هذه الفترة من أهم ما يستوقف القارئ. وقد كتبت عنه فاطمة بإسهاب. لكنني أحاول أن أفهم النثر على أنه يمت الى عالمي القصة والرواية. ولم تستطع فاطمة أن تخصص مساحة للنثر في ما يتعلق بعالمي القصة والرواية، سوى ما كتبته عن سليمان فيضي، ومحمود أحمد السيد الذي عُرف برائد القصة العراقية. وهما لم يقنعانا بكفاءتهما الفنية حتى في أدنى مستوياتها. فالنثر القصصي والروائي لم يكد يكون له حضور يذكر في عالمنا الثقافي المبكر ربما حتى أربعينات القرن العشرين. وحتى النثر غير القصصي كان الشعر يقوم مقامه. فقد كان الشعر في أوائل القرن العشرين يعالج موضوعات فكرية وفلسفية وعلمية، وهي ليست من مواضيعه. لأننا كنا أمة شعر. ولم نجرب النثر إلا بعد أن أصبح في مكنتنا أن نكتب القصة والرواية. ومع ذلك بقي الشعر في ثوبه الجديد، مهيمناً على الساحة، وإن صرنا نشهد إنحساره النسبي في السنوات الأخيرة (أم إن هذا ما يُخيل إليّ؟) وتحدثت فاطمة عن محاولات التجديد في الشعر العراقي في المرحلة التي يغطيها كتابها، فاستعرضت آراء الكتاب والنقاد العراقيين بهذا الشأن في فصل تفصيلي تحت عنوان جميل هو «المكوث في زمن الشعر». وقد أجمع هؤلاء الكتاب على أن التجديد تم على يدي الزهاوي والرصافي. لكن فاطمة المحسن تعقب: «وفي الظن أن ليس بمقدور الدارس اليوم استثناء الشعراء الذين عاصروا فترة الرصافي والزهاوي، وعلى وجه الخصوص الشبيبيين، محمد رضا ومحمد باقر، إضافة الى علي الشرقي وخيري الهنداوي، فالكل كان يتحرك ضمن نسق الكتابة المتلمسة أسباباً جديدة للقول، غير ان الحضور الأدبي للشاعرين الأبرز كان مختلفاً». (تقصد الزهاوي والرصافي). لكنها تشير أيضاً في هذا السياق الى أن عبدالكريم الدجيلي يرى أن محمد سعيد الحبوبي هو رائد الشعر العراقي الحديث، ويجد سبباً لهذا الخيار في لغته اللينة المطواعة ومواضيعه التي تتضمن الغزل وشعر الطبيعة. وبالمناسبة هو القائل: «لا تقولوا صدّ عنا وجفا / عندكم روحي وعندي بدني». لكن المشهد الشعري الكلاسيكي سيهيمن عليه الجواهري الذي سيحتل الساحة الشعرية بلا منازع الى أواسط القرن العشرين وما بعدها لا سيما بشعره السياسي المتألق الذي تغنى به حتى المثقفون. ولن يزاحمه حتى بدر شاكر السياب ونازك الملائكة بمنهجهما الشعري الجديد. وأنا لم أكتب بعد شيئاً عن كتاب فاطمة المحسن المذهل. وأعود فأقول إنني لا أستطيع أن أفيه حقه في كلمة قصيرة كهذه. وأنا أتطلع الى كتاب فاطمة التالي الذي ستغطي فيه مرحلة غنية من تأريخ الثقافة في العراق، أعني بها منذ أواخر الربع الأول من القرن العشرين وحتى يومنا. * كاتب عراقي